كانت تسير في الطرقات تنظر إلى نقطة وهمية في الفراغ بِشرود، بينما زخات المطر تهطل من فوقها تلامس جسدها، عيناها ترمش بِبطء شديد، تمامًا كخطواتها المُتثاقلة التي تخطوها.
فِي طريقها إلى المقابِر.
خطت أول خطواتها في الطريق الصامت الذي يَقودك إلى المقابر، قبل أن تتنهد نابسة بِهمس وخصلات شعرها البُنية تتطاير حولها:
« السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتُه، أنتم السابقون ونَحنُ اللاحقون. »
ثم تابعت سيرها والشمس فوقها التي تُوشِك على الغروب مُختبئة بين تِلك الغيوم التي احتضنتها بِرحبٍ، ونظرًا لِذاك الوقت الذي يُعتبر للبعض مُتأخر لِلذهاب لِمكانٍ مِثل المقابر، لم يُقابلها أي شخص أثناء سيرها وتوغلها أكثر بين المقابر المرصوصة على كِلا جانبيها.
اختلطت دموعها التي كانت تذرفُها بِصمتٍ بِمياه المطر المُتساقطة فوق وجهها، بينما هيّ لم تفكر حتى في إزالتها مِن فوق وجهها، تاركة العنان للمطر لِيُغرقها كُليًا، غير عابئة بإرتجافة جسدها اللاإرادية، ولم تهتم حتى لأنها رُبما تُصاب بِنزلة برد حادة.
تقدمت في السير أكثر، حتى لفت نظرها شخصًا ما بعيدٌ عن ناظريها نسبيًا، يجلس على صخرة أمام مقبرة ما، يُطأطأ رأسه أرضًا، ولم تستطع تحديد هوية تِلك الشخص، هل هو امرأة أم رجل، أو ماذا يفعل، لأنه كان بعيد عنها.
ولكنها عرفت حين اقتربت، حيث رأته يجلس أمام المقبرة، المطر أغرقه كُليًا بالفعل، ووصل إلى مسامعها صوت ارتشافه لِماء أنفه، يبدو أنه يبكي، على أي حال هيّ في المقابر، فَماذا كانت تنتظر مثلًا؟ هل كانت تنتظر أن ترى حفلة ونخبكم يا رِفاق؟ بالطبع لا!
توقفت قريبة مِن موقع جلوسه قليلًا، تُطالعه بِشفقة، ورغبة مُلِحة للبكاء اجتاحت عيونها حاليًا، غِصة في حلقها جعلتها تُريد أن تصرخ بأعلى صوتها، حينما رأته يمسح دموعه بكف يده مِن فوق وجهه كَطفلٍ تائه لا يدري أين والدته، وصوت شهقاته هو كُل ما صدح في ذاك المكان الخالي مِن البشر في وقتٍ كهذا.
أغمضت عينيها تَعصرهما بِشدة، قبل أن تُعيد فتحهما، لِتجده يُناظرها بالفعل، وحينما تقابلت أعينهما، حرك وجهه بِأكمله للجهة الأخرى، يبعد مُقلتيه الحمراء الذابلة عنها، مانعًا إياها مِن رؤية دموعه، أو بالأحرى ضعفه.
لِتُتابع هيّ سيرها، حتى وصلت إلى وجهتها، لِتجلس أرضًا أمام مقبرةً ما، الطمي أسفل ملابسها حالكة السواد؛ تسبب في اتساخها، ولكنها لم تعبأ لِهذا الشيء، بل اجهشت في البكاء دون مُقدمات، بعدما كانت تُحاول السيطرة على دموعها مِن الخروج.
رفعت رأسها تُناطر المَقبرة أمامها، والتي حُفِرَ فوقها اسم شخصُا ما، هاتفة بِصوتٍ مبحوح مُتحشرج:
أنت تقرأ
حَتىٰ يَعود الرَبِيع.
Romanceعَالِقَة بَيّن الحَاضِر المَيّتْ، والمَاضِي الذي لا يَمُوت. ولَم يَمْنحها الحُلم الطَمَأنِينة! النواح عالقٌ بِرأسِها، وضجيج المَدِينة في أذنها، هي المُتعبة والبائسة، مُثقلة كأن جسدها مليء بالحِجارة، وعيناها كالغيّم بِلا رؤية. _ بدأت في الـ ٢٤ مِن مَ...