إحباط

107 8 0
                                    


دخل بيته الذي يعمه الهدوء، يعيش لوحده في زواياه، يشتاق لاهله، امه الحبيبة التي احتضنها المرض فاستسلمت له و امسكت بيد الموت و هاجرت معه... كان يضع صورة لها في حائط في البيت و يتذكرها و حنانها و ملامحها التي لا تغيب عن عينيه ...

عيناها الناعستان البنيتا اللون، مع شعرها المموج الطويل اللامع، و انفها الدقيق، و ابتسامتها الباهجة الشبيهة  باتساع السماء، فتبتل روحك بضحكاتها، و بشرتها القهوية لونها، كان لها جمالها الخاص بل كانت كالوردة الفاتنة في الحديقة و كالمرآة الصافية و كالشمس الدافئة في يوم شتوي بارد... ينظر اليها بتمعن و يستحدث ذكرياته الحلوة معها. و بجانب تلك الصورة توجد صورة ابيه الذي لم يعرفه يوما، فقد توفي قبل وصوله لهذه الحياة، كان ينظر اليه كنظره في المراة فشبههما كان بعيد المدى، يتذكر ما قيل عنه فقد كانت  تبتسم معه طيبته و كان يقبل في حسن اجل عن الوصف، كان كالبحر في السماحة و كالشمس في الاشراق، كان شهما شجاعا قوي البنية طويل القامة، كالسفينة القوية في عواصف البحر، طاهر القلب،  كريم الجرشى ،شريف النسب، لطيفا مع غيره محبوبا بين الناس بل وكان كالشمعة المضيئة في الظلام، الا ان الاقدار شاءت ان تضع النقطة الاخيرة في كتاب حياته فالتهمه الظلام و اعماه النور و قتلته الحياة، وكانت اخر ذكراه تلك الشاحنة الضخمة التي اصطدمت بسيارته المتواضعة و ومضات ذكرى اخرى في المشفى فلفظ نفسه الاخير فامسى بين انقاض اماله المحطمة ...

مرت الساعات ونام محمد، تكرر نفس الكابوس يوما بعد يوم، حتى صارت هلوساته تريه خيالات هنا و هناك، يسمع همسات في كلتا طبلتي اذنيه حتى تفاقم عليه الامر كثيرا، صار مرهقا من كثرة التفكير، اصابه الارق ليلا فقد كان ليله طويل البؤس و نهاره قصير البهجة، زادت همومه و كثرت غمومه ، غاب عنه الاطمئنان و السكينة بل اعتزل الناس جميعا، صار كسولا خمولا شاحب الوجه زادت عليه تلك الحالة شهرا يلي شهرا ، اصبح يميز اصوات تلك الهمسات وادرك انها تتمحور حول اخته التي ركبت قطار المحطة لتلحق بوالديها... 

غطى رداء الحزن حياته،متشبثا بها  باظافره خائفا من وقوعه ، يخالج قلبه خدوش في الذاكرة و رضوض في المشاعر، متعب لا يقوى على حمل نفسه ، رغم جهوداته لم يقدر على صنع بسمة خفيفة مزيفة فالحزن اتخذ من قلبه مسكنا، فلا شيء يواسيه و لا يد تلمس قلبه برفق ولا روح تهمس لحزنه بلطف فايقن وجود اشياء غارقة في نفسه اكثر من تلك التي في البحار بكثير، شعور بالوحدة العارمة رغم كل من حوله من بشر، فاقدا الرغبة في الحياة اصبح كالسحابة الثقيلة التي تعلو الأفق، و كالغيمة الداكنة التي تحجب الشمس، و كالقطعة الأثرية المكسورة ، و كالوردة الجميلة التي فقدت عبيرها ، و كالمرآة المكسورة التي لا تعكس الحقيقة ، و كالجرح العميق الذي يحتاج للعلاج والشفاء... فقد اكتفى و لم يعد هناك متسع في ميناء ذاكرته لترسوا عليها سفن هموم جديدة.

بعد مدة من تلك الحالة وصل لمرحلة الانعزال التام ، جالسا في فضاء غرفته يحاور تلك الاصوات المتراكمة في راسه، محاط بالاحباط مفتقدا لمن فارقوه و تركوه في شواك هذه الحياة، تائها في تلك الكوابيس وجد ان بقاءه كانعدامه لا هدف له و لايرى الا صورة تلك الفتاة من احلامه تلك مع كلماتها الغريبة في مراته المكسورة،  زمن المشاعر المصدومة و القلوب الفارغة،فقد حطم الياس مزمار الهوى بفمه، و قيد الصمت في صوته اغانيه ، فهناك خواء يتمدد ببطئ و يلتهم ما تبقى منه ، فبدت ايامه كجثة باردة فارقتها روحها منذ زمن بعيد و لم يتقدم لدفنها احد ...

فطارت الايام  تسابقت الاسابيع و لم يبقى سوى شظايا امل جميل ...

مملكة افينتورينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن