جالسٌ أمـام قبرهـا وقد أخذت الدموع مجراها على وجنتيه، فهذه الذكرى الخامسة والعشرين لوفاتهـا، وفاة مَنْ تمنى أن يحظى بحنانهـا، رحلت عن هذا العالم المليء بالمُهتمين بالشكل الخارجيّ، أمـا روحهـا ومـا تُعانيه من آلام بسبب كلامهم المُغلف بالسُّم الذين جعلوهـا تتجرعه مُرغمة لا يهم، لا يهم أبدًا أن يعرفوا مـا يجول في خاطرهـا، أن يرَوْا جمـال روحهـا بدلًا من شكلهـا، يعتقدون أن الجمال يكمُن في الشكل ولا يعلمون أنه يكمُن في الروح، فهي الباقية، أمـا الجسد فمكانه تحت التراب.
أنهى تلاوة بعض آيات القرآن الكريم ونهض عن الأرض، ثم نفض الأتربة عن ملابسه، ليُلقي نظرة أخيرة على قبرهـا، وكم بدت ملامحه مليئةً بالألم!
عـاد للمنزل الذي تبعثُ جدرانه لروحهِ الدفء والألفة، دلف لغرفته وألقى بجسده على فراشه، وأخذ وسادته يضمهـا لصدره؛ يبحث عن رائحة والدته فيهـا، فهي مَنْ أعدت لهُ غُرفته وفراشه قبل ولادته كمـا أخبره والده، اعتاد على فعلِ ذلك مُنذ صغرِهِ، أصـابته خيبة الأمـل حينمـا لم يجد أي رائحة، فاتخذ وضعية الجنين في بطن أمهِ حينمـا ينمو في أحشائهـا، خَفتَ نحيبه لثانية عندمـا سمع صوت فتح بـاب المنزل، لقد عاد والده!
اعتدل بنصف جذعهِ على الفراش حينمـا وجد أن صوت خطواته يقترب من الغُرفة، ليطمئِن عليه كمـا يفعل دومًـا عند عودته من العمل، طرق طرقتـان على البـاب ودلف، اقترب من ولدهِ وهو يعلم مـا يشعر بـهِ، فمن المُستحيل أن ينسى أنّ اليوم ذكرى وفاة من دق لهـا القلب، القلب الذي رفض أن يدق مرةً أخرى لغيرهـا، أخذ نفسًـا عميقًـا قبل أن يمدّ يده بمذكرةٍ بيضـاء اللون مُلصقٌ بهـا قلبٌ ورديّ أضـاف إليهـا لمسةً من الأنـاقة، ولكن لا تنخدع بمظهرهـا فلا أحد يعلم مدى الألم الذي بداخلهـا سوى قارئِهـا وراويهـا، وقال:
- هذه المُذكرة تحتوي على مـا لم أخبركَ بـهِ.
ملامحه تشير إلى استغرابه الشديد، هل هناك شيءٌ لا يعلمه عن والدته وربمـا يجده في تلك المُذكرة؟! التقطتهـا يداه، وقرأ مـا كُتِبَ عليهـا من الخـارج "العوض"، رمقه والدهُ بنظرةٍ أخيرة قبل أن يتركـه لقراءتهـا بمُفرده.
بدأ في القراءة ومع كُلِّ سطرٍ قرأته عيناه كـانت تصحبهـا دموعه: "عزيزي أنس، لا أعلم إن كُنت أقرأ هذه المذكرة برفقتك أم لا، يداهمني شعورٌ لا يحتوي سوى على الخوف، الخوف من مـاذا؟ لا أعلم!
لا تلُمني على تركك بلا أمٍ، فهناك خالتُك "إيمان" ستُعوضك غيابي، كُل مـا يقدِّرهُ الله لنـا يحمِلُ حكمةً لا نعلمهـا ورُبمـا نوقن معانيهـا في وقتٍ آخر، أعلم مـا ستشعر به مِنْ ألمٍ وحُزن عند معرفتك ماهية محتواهـا.
طلبتُ من والدك إذا توفيت ولم أفِق بعد ولادتك أن يخبرك بهذا، حتى لا تشعر أنك سببٌ في وفاتي، فهذا قضـاء الله ولا يحقُّ لنـا الاعتراض عليه: لقد توفيتُ إثرَ حادثٍ، حيثُ أنّي لم أنتبه عند قيادتي للسيارة، فوقع الحادث من غفلتي وكُنت أتمنى أن تقتنع بِما يقصه عليكَ من قصةٍ قد ألفتها في مُخيلتي وجعلته هو راويهـا.
الحقيقة يا بُنيّ كـانت غير مـا أَخبركَ بهِ، حيثُ أنني قبل أن أتزوج والدك كُنت مُتزوجةً برجل قـام أبي باختياره، لرؤيتهِ فيه الزوج الصالحُ لي، وكُنت أنتمي لعائلةٍ مُحافظة جدًا لا تعصي الفتاة المُهذبة أمرًا لوالديهـا، بالتأكيد أنَّ الوالدين لن يختارَا لأبنائهم السوء، وعندمـا أراد أبي أن أتزوج قُلتُ له:
- إن كـان هذا سيجعلك سعيدًا فأنا موافقة.
ويا ليتني مـا وافقت، فقد أدخلت نفسي في دائرةٍ لا يملؤهـا سوى الألـم، ولم أكن أدري ذلك.
لم يكُن زواجًا سعيدًا على الإطلاق؛ كـان "زياد" زوجي يُعاملني كقطع الأثـاث في المنزل، وجودي مثل عدمه، ولم يكن يُحادثني سوى وهو يُعطيني المـال لأشتري احتياجات المنزل وكأنه كـانَ مُرغمًـا، ويومًـا يليه الآخر انشغل عنّي بالعمل، فبِتُّ حبيسةَ جُدران غُرفتي، وللحق كـانت خيرَ صديق؛ أبكي بقهرةٍ وكـأنني أنتظر منها المواساة!
سافر "زياد" لإحدى مأمورياتهِ، وفي أحدِ الأيام وأنا أجلس على فراشي وأضم ركبتيَّ لصدري وأحيطهمـا بيداي سمعتُ صوت أذان الفجر وقد مرّ الوقت دون شعورٍ مني، كأنهـا إشارةٌ من الله لأدعوه، فتوضأت وأديتُ صلاة الفجر بخشوعٍ تـام وأنا أشكو إلى الله مـا يؤُرق منامي ويؤلمني، أنهيتُ صلاتي وقد تسلل إليَّ شعورٌ مليءٌ بالراحة، بقيت جالسة على الفراش وأُمسك بين يديَّ المُصحف الشريف، ومع كُلِّ آيةٍ أتلوهـا يزدادُ شعوري بالراحة، فالقرآن الكريم أفضل دواءٍ لآلام أي بشر، داهمني النعاس فأغلقت المُصحف بعد أن صدّقت، ووضعته على الكومود المجاور للفراش، لينتصر عليَّ سُلطانُ النوم وأغط في سُباتٍ عميق.
مرّت سنتان وأنا على حالتي يعود من السفر ليُعطيني مصروفيَ الشهريّ وكأنه يؤدي واجباته ناحيتي فقط، ولا يبقى معي سوى أيامٍ تُعدُّ على الأصابع، ليأتي يومٌ جديد مليءٌ بالأحداث والآلام، فقد عـاد زوجي ورحبتُ بـهِ بسعادة وكأنه لم يجرحني بأفعالهِ يومًـا، وفاجأني حينمـا أخبرني أنه قد أعدَّ لي مفاجأة، وطلب منّي أن أبدِّل ثيابي حتى نذهب إلى مكانِهـا، فَرِحتُ بشدة واعتقدتُ أنَّ العدّ التنازليّ لحلول أيـام الفرح ودخول السعادة إلى قلبي قد حـان وقتُه الآن.