الرجل الذي كان محاطا بالحمقى
لقد كنت في المرحلة الثانوية، عندما لاحظت لأول مرة انني اكون متوافقا مع بعض الأشخاص افضل من البعض الآخر. كان من السهل التحدث مع بعض اصدقائي. ففي أي محادثة، كنا نجد دائما الكلمات المناسبة و كل شيء كان يتدفق بسلاسة. لم يكن هناك اي صراعات، و كنا نحب بعضنا بعضا. أما مع الآخرين، كان كل شيء يسير بشكل خاطئ. ما كنت اقوله كان يقع على آذان صماؤ، و لم أستطع فهم السبب.
فلماذا كان التحدث إلى بعض الناس بهذه السهولة بينما كان الآخرون حمقى تماما؟ عندما كنت صغيرا، بالتأكيد لم يكن هذا شيئا يشغلني كثيرا. و مع ذلك، ما زلت أتذكر الحيرة التي كانت تنتابني حول سبب تدفق بعض المحادثات بشكل طبيعي بينما لا تبدأ بعض المحادثات الأخرى على الإطلاق؛ بغض النظر عن الطريقة التي أجريها بها. كان أمرا غير مفهوم و بدأت باستخدام طرق مختلفة لاختبار الناس. حاولت ان اقول نفس الأشياء في سياقات مماثلة بمجرد رؤية رد الفعل الذي أحصل عليه. في بعض الأحيان كان ينجح الأمر فعلا و تحدث مناقشة مشوقة. في مناسبات أخرى، لم يحدث شيء على الإطلاق. كان يحدق الناس في وجهي كما لو كنت من كوكب آخر، و أحيانا كان الأمر يبدة كذلك حقا.
عندما نكون صغارا، فإننا نميل إلى التفكير في الأشياء ببساكة شديدة. إذ لأن بعض الأشخاص في دائرة أصدقائي كانوا يستجيبون بطريقة طبيعية، فقد كان ذلك يعني، بطبيعة الحال، أنهن كانوا الأشخاص الجيدين تلقائيا. و هكذا افترضت أن هناك شيئا ما خاطئا في الأشخاص الذين لم يفهموني. فما التفسير الآخر الذي يمكن أن يوجد؟ لقد كنت نفس الشخص طوال الوقت! بعض الناس فثك بهم شيء خاطئ. لذلك بدأت ببساطة تجنب هؤلاء الناس الغريبين المعقدين لأنني لم افهمهم. أطلق علهم اسم سذاجة الصغار إن شئت، لكنها تسببت في بعض العواقب المسلية. أما في السنوات الاحقة، فقد تغير كل هذا.
استمرت الحياة في العمل و الاسرة و الحياة المهنية، وواصلت تصنيف الناس إلى مجموعتين: أُناس جيديت و عاقلين و بقية الناس، الأشخاص الذين لا يبدو أنهم يفهمون أي شيء على الإطلاق.
عندما كنت في الخامسة و العشرين من عمري، قابلت رجلا كان يعمل لحسابه الخاص يدعى"ستور". أسس "ستور"، الذي هو الآن في الستينيات من عمره، عمله الخاص و قام ببنائه على مر سنوات عديدة. تم تكليفي بإجراء مقابلة معه قبل تنفيذ مشروع جديد. بدأنا نتحدث عن كيفية عمل الأشياء في منظمته. أحد التعليقات الاولى التي ادلى بها ستور هو انه كان محاطا بالحمقى. أتذكر أنني ضحكت في ذلك الوقت لأنني اعتقدت انها كانت مزحة. لكنه كان يعني حقا ما قاله. و استشاط غضبا بينما كان يوضح لي أن الأشخاص العاملين في القسم "أ" كانوا حمقى جميعهم. أما في القسم "ب" فستجد البلهاء الذين لا يفهمون شيئا على الإطلاق. ذلك وهو لم يأت بعد إلى القسم "ج"! الذين كانوا الأسوأ على الإطلاق! لقد كانوا غريبين للغاية لدرجة أن ستور لم يتمكن من فهم كيف أنهم قد نجحوا حتى في الذهاب إلى العمل في الصباح. كلما استمعت إليه أكثر، أدركت أن هناك شيئا غريبا جدا حول هذه القصة. سألته إذا كان يعتقد حقا أنه محاط بالحمقى. نظر ساخطا في وجهي وأوضح أن عددا قليلا جدا من موظفيه هم من لهم قيمة ويستحقون البقاء. لم يكن لدى ستور مشكلة في السماح لموظفيه بمعرفة ما كان يشعر به. فهو كان لا يتردد في نعت أي شخص بالأحمق أمام الشركة بأكملها لأقل الأشياء. وكان نتيجة ذلك أن موظفيه تعلموا تجنبه. لم يجرؤ أحد على عقد اجتماعات فردية معه؛ وكان يجب ألا يسمع أبدا الأخبار السيئة لأنه كان يصب جام غضبه على من يبلغه بتلك الأخبار. لدرجة أنه في أحد المقرات، تم تركيب مصباح تحذير عند مدخل المبنى. تم وضع المصباح في مكان خفي فوق مكتب الاستقبال، وكان يصبح لونه أحمر عندما يكون ستور هناك ويتحول إلى اللون الأخضر عندما يرحل كان يعلم الجميع بهذا. ليس فقط الموظفون بل العملاء أيضا كانوا يلقون نظرة خاطفة على الضوء لمعرفة ما ينتظرهم عندما يتخطون العتبة. وإذا كان الضوء أحمر، فسوف يتراجع بعض الناس ببساطة إلى الباب، ويقررون العودة في وقت مناسب. كما نعلم جميعا، عندما تكون شابا، فأنت تكون مليئا بالأفكار الرائعة. لذا طرحت السؤال الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه: "من قام بتعيين كل هؤلاء الحمقى؟" عرفت، أنه
هو من قام بتعيين معظمهم. ما هو أسوأ من ذلك هو أن ستور فهم بالضبط ما أعنيه ضمنيا. إن ما سألته ضمنيا هو: من هو الأحمق بالفعل؟
طردني ستور. وفي وقت لاحق، قيل لي إن ما أراد فعله حقا هو جلب بندقية وإطلاق النار علي.
جعلتني هذه الحادثة أفكر. كان هناك رجل سيتقاعد قريبا. وكان من الواضح أنه رجل أعمال ماهر، يحظى باحترام كبير بسبب معرفته القوية بمجال عمله الخاص. لكنه لم يستطع التعامل مع الناس. لم يفهم المورد الأكثر أهمية وتعقيدا في أي منظمة؛ أي الموظفين. وأي شخص لم يستطع فهمه كان بالنسبة له مجرد أحمق.
وبما أنني كنت من خارج الشركة، كان من السهل أن أرى مدى خطأ تفكيره. من المؤكد أنه لم يدرك دائما أنه يقارن الأشخاص بنفسه، كان تعريفه للحماقة ببساطة
و أي شخص لم يفكر أو يتصرف مثله. لقد استخدم التعبيرات التي كنت أستخدمها أيضا مع أنواع معينة من الناس: "ثرثار متكبر"، و"بيروقراطي أبله"، "وغد وقح"،
" غبي ممل". وعلى الرغم من أنني لم أطلق أبدا على أي شخص كلمة أحمق، على الأقل ليس بطريقة يمكنه سماعي بها، فقد كان لدي مشاكل واضحة مع أنواع معينة من هو الناس. لقد كانت فكرة مروعة تماما أن أعيش حياتي معتقدا دائما أنني محاط بأشخاص
كان من المستحيل العمل معهم. لقد كانت تجعل إمكاناتي الخاصة في الحياة محدودة
بشكل لا يصدق.
حاولت أن أرى نفسي في المرآة. كان القرار سهلا. لا أريد أن أكون مثل ستور. بعد لقاء هدام وسلبي للغاية معه ومع بعض من زملائه المؤسسين، جلست في السيارة مع شعوري بغصة في بطني. كان الاجتماع كارثة تامة. كان الجميع غاضبين. لقد قررت، في ذلك المكان والزمان، أن أتعلم ما يمثل أهم معرفة على الإطلاق؛ أي كيف يتصرف الناس. بالتأكيد كنت سأواجه أشخاصا لبقية حياتي، بغض النظر عن مهنتي، وكان من السهل أن أرى أنني سأستفيد كثيرا من خلال القدرة على فهمهم.
بدأت على الفور في دراسة كيفية فهم الأشخاص الذين يبدون في البداية معقدين للغاية. لماذا يصمت بعض الناس، بينما لا يتوقف الآخرون عن الكلام، لماذا يقول بعض الناس الحقيقة دائما بينما لا يفعل البعض الآخر ذلك أبدا؟ لماذا يصل بعض زملائي دائما في الوقت المحدد، بينما نادرا ما يتمكن الآخرون من ذلك؟ بل وحتى لماذا أحب بعض الناس أكثر من الآخرين؟ كانت الرؤى والأفكار التي اكتسبتها رائعة، ولم أعد نفس الشخص الذي كنته منذ أن بدأت هذه الرحلة. لقد غيرتني المعرفة التي اكتسبتها كشخص، وكصديق، وكزميل، وكابن، وكزوج وأب لأطفالي.
وهي يدور هذا الكتاب حول ما هي على الأرجح أكثر الطرق استخداما في العالم لوصف الاختلافات في التواصل الإنساني. تسمى هذه الطريقة نظام ديسا DISA اختصار يرمز للهيمنة Dominance والتأثير Inducement والخضوع Submission والقدرة التحليلية Analytic ability. هذه المصطلحات الأربعة هي أنماط الشخصية الأساسية، التي تصف كيف يرى الناس أنفسهم في علاقتهم ببيئتهم. يرتبط كل نمط من هذه الشخصيات بلون: الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. يطلق على هذا النظام أيضا نظام DISC، حيث يشير الحرف الأخير للاختصار إلى الامتثال Compliance بدلا من القدرة التحليلية. لقد استخدمت أشكالا مختلفة من هذه الأداة لأكثر من عشرين عاما مع نتائج ممتازة.
لكن كيف تصبح حقا ماهرا في التعامل مع أنواع مختلفة من الناس؟ هناك، بالطبع، أساليب مختلفة. الطريقة الأكثر شيوعا هي البحث في الأمر وتعلم الأساسيات. لكن تعلم الجزء النظري لا يجعلك شخصا ذا قدرة تواصلية من الطراز الرفيع. فقط عندما تبدأ في استخدام هذه المعرفة، يمكنك تطوير كفاءة حقيقية وفعالة في هذا المجال. تماما مثل تعلم ركوب الدراجة؛ حيث يكون عليك ركوب الدراجة أولا. وعندها فقط ستدرك ما يتوجب عليك القيام به.
منذ أن بدأت في دراسة كيفية تصرف الأشخاص وحاولت بشق الأنفس فهم الاختلافات في الطريقة التي نتواصل بها، لم أعد أبدا نفس الشخص. لم أعد قاطعا
وحاسما بعد الآن، بحيث أحكم على الأشخاص لمجرد أنهم ليسوا مثلي. لقد أصبح صبري مع الأشخاص الذين يمثلون الأضداد الكاملة لي أكبر بكثير لسنوات عديدة.
لن أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إنني لا أتورط أبدا في بعض النزاعات، تماما كما لن أحاول إقناعك بأني لا أكذب أبدا، لكن كلا الأمرين يحدثان نادرا جدا الآن.
لدي فقط شيء واحد لأشكر ستور عليه؛ وهو أنه أثار اهتمامي بالموضوع. فمن دونه، كان لن يكتب هذا الكتاب أبدا على الأرجح.
إذا ما الذي يمكنك القيام به لزيادة معرفتك حول كيفية تواصل الناس وتفاعلهم؟
قد تكون البداية الجيدة لذلك هي الاستمرار في قراءة هذا الكتاب؛ الكتاب بكامله، وليس فقط الفصول الثلاثة الأولى. ومع قليل من الحظ، في غضون دقائق قليلة، يمكنك أن تبدأ نفس الرحلة التي بدأتها أنا قبل عشرين عاما. وأعدك أنك لن تندم أبدا على ذلك.
شيء أخير يجب الإشارة إليه: لتبسيط قراءة هذا الكتاب، اخترت استخدام "هو" و "له" باستمرار عندما أشير إلى أمثلة غير مرتبطة بأي شخص محدد. وأعلم أن لديكم ما يكفي من الخيال لإدراج "هي" أو "لها" في أفكاركم حيث قد يكون ذلك مناسبا.
أنت تقرأ
محاط بالحمقى
Non-Fictionكتاب "محاط بالحمقى" بقلم توماس إريكسون للأنماط الأربعة للسلوك البشري و بترجمة عمر فتحي.