الفصل الحادي والخمسون (الجزء الأول)

31.4K 214 1.8K
                                    


"هونّ علي قلبي يا الله... إني أبهَت"

في مساء الغربة الاتِّآسة، في الكآبة الداخلية، والنجوة الشَّجوة، والسكون المرير.. رغم المناظر الخلابة.. هُناك ذهن فارغ. قلب نازف. حيثُ كانت تجلس فوق الارائك.. وحولها عاملتان.. يجهزانها تجهيزًا سخيًا.. في ترتيب مظهرها.. وتسريح شعرها.. المتهدل على حناياها والجيد. لقد جعل منها هذه اللحظة أشبه بتمثال لا حيلة له ولا قوة. إنها تحزر نفسها في المرآة العملاقة أكثر مما تراها. يتناهى اليها هونها وعوزها وأسرها.
انخفضت احدى العاملات تقلم أظافر قدميها.. وهي في عزلة لا مفهومة.. هلوسات تئن في دماغها.. لا تتخلص منها. رأسها يدور.. إن مخيلتها لمريضة. انقطعت مشاهدها عند فقدانها الوعي أسفل السماء المثقلة بالأمطار.
استيقظت من خلوتها، حين تناهى اليها همس العاملة للأخرى.. توضح مجيء السيد.. يبدو أنه قادم بعد انقطاع من رؤيتها له.
انخفضت الجفون برهبة.. وبلعت ريقها برجفة.. وشدت على مقابض يدها في خرع وهيعة.
أما هو فقد كان يجلس في غرفة الاستقبال.. متفرد على تلك الكنبة.. وضع الرجل ذو الزي الرسمي.. جواز السفر الكندي فوق الطاولة القريبة من الاخر.. بعد أن طلب ذياب له بإصدار جوازٍ بجنسيته الجديدة.. ثم مضى خارج.
أخذ انفاس عميقة وهو يوثقه بيده.. ينظر الى ملاذه الجديد.. مهربه ومحطته الأخيرة في الاستقرار.. تبسم ببسمة نرجسية متباهية بحذاقته وعبقريته.. لقد نجا.. فر من جحيم محتوم.. هو الظافر.. الهازم.. الرابح الأكبر.. في هذه اللعبة العظيمة.. المهيبة.. المدمرة.
صمّد أسم "رشاش" في أذهان الجميع.. جعلهم يحومون حول أنفسهم باحثين عنه وهو يمر من أمام الجميع بلا رادع أو دستور.
مد يده بأخذ قارورة (البلاك ليبل) من فوق الطاولة.. وضع الزجاجة على فاهه، وملأ جوفه.. بما يكفي من الشراب.. ليروي مسام جسده النافش، المتفاخر بانتصاره.
تصلب يسير ناحية الحجرة.. خالع قميصه يمسح به فمه من قطرات الشراب ثم رماه ارضًا.
دخل مهجعها.. نظر إليها بعينيه الحادة.. فكانت جالسة برداء حريري حائر على ساقيها، ذو لون عاج. عليها سيماء من الحزن والالتياع.. بلونها الأبيض الزهري. كلها رنين عميق وقلق. إنها تتوتر. ثمّة هوى مكتوم يبعث الحياة في حركاتها ونظراتها المعتمة.. لا حياة فيها.
الألم الحقيقي يثوى بداخلنا. إنّه ليس بشيءٍ يُسمع أو يُرى. لكنّه يبطل بدماثة كلّ شيء، حتى الحياة. إنَّ الألم الحقيقي يتّنمس أشكال السأم اللاحبة.
وتنبهتا العاملتان على وجوده.. فسريعًا ما انسبتا للخارج. وفطنت على حضوره من تحركات العاملات. فكانت عيناها المطفأة.. قد توقدت قليلًا في حذرٍ وحيط لا سيما التوجس الذي شُكل على امائرها.
وكان كلما اقترب بخطواته صوبها زاد انقباضها وارتياعها.. سريعًا ما أطرقت برأسها، ناكسه للجهة الأخرى.. وقد بلعت ريقها بصعوبة.. حين انتصب أمامها.. رجف فكها لمّا قضب عليه رافع مستوى نظرها لنظره.. وقد شلّها الذعر لحظة، تفرّس كلّ منهما في وجه الآخر.. كانت خائرة القوى تقريبًا.. فلم تبدي أي حركة سوى تشتت النظرات.. حين أتت بغتة صور لكوابيس غير قادرة على التمييز بين ما تتعرض له في هذه الأحلام، وبين ما تتعرض له في الحياة الواقعية.. ولكن ما كانت متأكدة منه أن هناك قوة شر تطوف حولها حين يكون على مقربة منها.
انكمش داخلها عندما كان يمرر ابهامه بتواني على شفاهها الممتلئة.. تناهى اليها صوته: من زمان عنك.. اخبارك؟!
ذكرها وقد طبطب على رأسها مبتعد.. فاستوى جالس على الاريكة الجانبية لها.
بتردد وقد بدأت تشابك كفيها ببعضها بطريقة غير متزنة: مـ.. مـ..ـتى.. متى برجع الرياض.. آآ.. ابي ارجع!
امتعضت ملامحه، متملل.. وتمتم بعدم اهتمام: ما قفلنا على هالسالفة!
ردّت بينما كانت تهرش ساعدها.. ونظراتها غير ثابتة التركيز، منكمشة، صغيرة كطفلة: بـ..ـبس.. أنا ابي ارجع عند اهلي.. أنا تتـ.. تعبانه.. حـ..ـحيل.. حيل تعبانة ذياب.. جسمي كله يوجعني.. وراسي ثقيل.. احس بصداع ودوخه.. حتى اني انسى كثير.. واغلب وقتي انوم...
اقتطع كلامها بتنهيده.. وانسابت ابتسامة استخفاف: ما فيك الا العافية.. لا تكبرين الموضوع.. ألم طبيعي وبيروح.
بسطت ذراعيها على مرأى منه.. فوضحت التشوهات من كدمات وجروح الحقن، وفاهت بتبرير: طيب ايش هذا.. ليش كيذا فيني!!
عاين بلامبالاة.. ثم أردف بتكاسل، ويمد ساقيه على الطاولة: جروح بسيطة بتروح زين.. بس أنتِ لا تكثرين هرج.. وتتشكين من ادنات الدون!
-واهلي...
ارتعدت، متراجعة للخلف قليلًا، وانكمشت على نفسها، وتوسع الحدق فيه، لمّا صاح ساخطًا: في حريق.. وش لي بأهلك.. اسمعيني زين.. دام انك ام ولدي فقطعي الأمل نهائيًا انك تعوّدين الرياض.. حياتك هينا معي ومع ولدك ما لك غيرنا.. وبسك عاد.. كل ما تكلمت ذكرتي اهلك.. ما كأن أحد بالدنيا عنده اهل غيرك!
كان صدرها يعلو ويهبط كاليمّ.. وتلألأت سوداويتاها بإرتعاب وذعر.. بلسان متلعثم: لاني ابي اهلي.. ابيهم.. مني بخير هينا.. اذا تبي تجلس اجلس وحدك.. بس أنا برجع الرياض.
قالت هذا، ولم تكد تهدأ بعد، وهي تنظر إليه قلقة.. وتشدّ وتضغط بيدها ضغطًا مضطربًا.
كان يصغي إليها. تطوف على وجهه ذي التقاطيع الدقيقة، تعابير صبر.. سريعًا ما تحولت إلى تعابير سأم وضجر.. مشددّ بكلماته بنبرة تهديد وإنذار بينما تقدم بجسده قليلًا للأمام.. ليسند ذاته على ركبتيه: كلام بقوله مره ولا بعيده.. انسي ان عندك اهل.. معاد لك مكان عندهم زين.. حتى ذكرهم لا عاد تطرينه.. حياتك كلها بتكون هينا.. زيارة للرياض ما فيه.. مصلحتي من ذيك الديرة انتهت.. استوعبي هالكلام عدل ما ابي اكرره.. عُلم!
صاحت منتفضة انتفاضة احتجاج بنبرة نحيب باكية شاكية.. كانت لهجتها مغلفة بمأساة وقنوط أيس.. ورانت إليه بلحظٍ مغرورقتٍ بالدموع: ليش تسوي فيني كذا.. أنا وش سويت لك عشان تعاملني هالشكل وتمنعني من شوفت هلي.. حرام عليك... والله حرام!
آنذاك، استأنف كلامها وقبض على ذراعها.. وأنَّت، وذرفت دموعًا غزيرة.. ويدها الأخرى تحاول الدفاع عن أي تهجمات عنيفة صادرة من قبله.. وعارضها بصوت متهدج كما لو انه يبرر مآسيه: وشهو الحرام! انك دخلتي على جهاله.. وافقتي على واحد ما تعرفين عنه شيء!! موب هذا القدر.. ولازم ترضين به! مثلي حتى أنا فتحت عيني عـ الدنيا على أم **** ما اخترتها ولا ابيها!! كلنا زي بعض زين.. ايه.. ايه.. ابيك تتألمين مثل ما انا اتألم.. موب بس أنتِ حتى اهلك ابيهم يزعلون عليك يبكون دم ويعضون أصابع الندم.. تعرفين وشو.. أحب اشوف ام تبكي على عيالها بحرقة... استمتع واتلذذ بهالشيء.
فتعالى صوت بكاءها.. وشرقت بدمعها.. وبدّدت هذا بهز رأسها.. في محاولة لإيقاف وقوع كلامه: بس اسكت ما ابي اسمعك.. اسكت.. اسكت!
واقترب منها مطرق رأسه، واضاف بنبرة لئيمة هامسًا بها.. ويده تضغط على فكها حتى لا ترخي رأسها وتقطع التواصل البصري: ايه زين.. بتتعرفين علي اكثر.. لسى الأيام قدامك.. عاد أنتِ مميزة.. يكفي انه امك صديقة الريم.. واخوك الكمخه ماسك قضيتي ومسوي نفسه محد قده.. نافخ ريشه على الفاضي.. جا الوقت الّي يندق خشمه قدام رجاله الّي شادين الظهر فيه.. اجل رشاش نسيبه! لا قوية هذي.. اقسم بالله قوية ومحدٍ بيصدقها لا عاقل ولا مجنون -قهقه بتعالي وإستهزاء بغيض- حظي كريم.. من أول ما فرحت هالكثر.
وزادت دموعها في الانهمار بل بدأت شفاهها تنتفض مما تحجرش داخلها، اسودت الدنيا في عينيها، واقشعر جسدها مما تناهى لها.
واستطرد بعد فينة.. بلهجة حماسية خبيثة.. وزاد اقترابه منها.. فرأت الشر ينضخ من عينيه.. وفي تعابيره العدوان متجسم: اليوم ابيك صاحيه.. ابيك بكامل وعيك.. تستشعرين كل شيء يصير فيك.. زمن المنوم انتهى.. معاد تحتاجينه.. وفري صياحك للفراش هيناك ممتع ومغري.. اما الحين يزعجني ويضايقني.. فـ انطمي لا تعكرين مزاجي.. عشان ما أعكر لك حياتك.
ولم تستطع منع نحيبها من الانبثاق.. فهي غير مستوعبة لهول ما تسمعه.. إنه باغي إنه فاسد.. وأشر مرتاب.
فهل هناك في تعابير اللغة وألفاظها ما لا ينطبق السيئ منه على حالتها المزرية!
وحاولت تحرير ذراعها من قبضته.. الا أنه لم يتردد بل دفع بها الى السرير.. فانهارت على مرقدها وهي تتأوه وتنشج.
واغلقت الانوار كلها.. وأنارت ظلمت هذا المساء.. بتنحي الستائر جميعها عن ضياء القمر.. فتوهجت ببريق مزرق لازورديّ.
وتعالى إنتحابها.. مقرونًا بصوت تمزيق الثياب.. وكان قد تكورت على نفسها.. وذراعيها حوطت بطنها.. بغريزة الأمومة.
وكان ماثل فوقها.. يستطيب صوتها الباكي المترجي.. وانتفاضاتها بسببه.. وكان يغمض عينه بلذة حيوانية متوحشة تفترسه بأكمله.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن