كم حياة ستعيش؟

8 0 0
                                    

كم حياة ستعيش؟ سؤال يبدو ساذجا بادئ الامر ؛لان اجابته واحدة ومحسومة، انها حياة واحدة... نحياها، ثم ينتهي السباق . يظهر فجاة خط النهاية، نبصر -دون تحذير- اشارة التوقف، فلا حركة بعدها ولا نفس .

حياة واحدة نعيشها جميعا، فليس من الفظنة -اذن- ان نحياها ونحن نرتجف هلعا ورعبا، وليس من الفظنة كذلك ان نحياها دون ان نتعلم فيها ومنها .

وابدا، ليس بذكي ذلك الذي يحياها وكانه لم يحي فيها قط، يتلمس موضع قدمه قبل الخطو، وينظر في وجوه من حوله قبل النطق، ويلتفت خلفه قبل ان يقرر شيئا، وان كان بسيطا.

يقال: ان اقصر قصة لحياة شخص:(ولد، وعاش، ومات)، هكذا دون تفاصيل مهمة، بلا اشارات ذات دلالة عميقة، لا هدف تحقق، ولا تاريخ يمكن ان يروى للابناء والحفدة. كم من الناس ولدوا وعاشوا وماتوا، فلم يشعر بموتهم احد، كما لم يشعر بحياتهم احد. المؤسف ان تكون هذه القصة المختصرة الهزيلة افضل من قصة اخرى اشد منها قصرا وهزلا، قصة من (ولد، ومات) ولم يعش، برغم سنوات عمره التي قد تمتد طويلا.

ولد ... ومات ... هكذا فقط ... دون اي اعتبار لانفاس دخلت وخرجت اياما وسنوات، عاش فصنع في الحياة زحاما وفوضى، وزاد عدد الاجساد واحدا، لكنه -يا للماساة- لم يعط لنا ولا لنفسه مبررا وجيها للسنوات التي قضاها سائحا في دنيا الله.

وعلى النقيض، هناك من ولد، ولم يمت، فرغم غياب جسده عنا، لا يزال حيا في ذاكرة الدنيا، ولم يعد توقف انفاسه دليلا على موته وفنائه. وفي ذلك يقول ابن عطاء السكندري:《رب عمر قصرت اماده واتسعت ابعاده》، فهؤلاء اعمارهم مباركة مثمرة، يقتحمون الحياة عن وعي وتخطيط، يحثون الخطا نحو اهدافهم بعزم وثبات، يخطئون فيستغفرون، يصححون اخطاءهم بلا خجل، يعيدون ترتيب حياتهم ان اعتراها فوضى او خلل، اوقاتهم هي راس مالهم الحقيقي، اهدافهم نبيلة، ووسائلهم لنيلها شريفة، وهم مع كل هذا مقاتلون من الطراز الفريد، نعم مقاتلون؛ فالحياة هي ام المعارك، ساحتها مليئة بالصراعات والحروب، وواهم من طلب فيها السلامة او الراحة او الهدوء.

ان الموت بحضوره الطاغي، هو الذي يصوغ معالم عبقرية المبدعين، وينقش اسماءهم بحروف من نور، فتبقى مضيئة عبر العصور. يقول(نابليون بونابارت):"ليس الموت شيئا مهما ، لكن ان تعيش مهزوما يعني ان تموت كل يوم" .

نشر الكتاب الروسي(فيودور دوستيفسكي) اولى رواياته(المساكين)، واصبح الشاب ذو الاعوام عام1849م قبض على(دوستيفسكي) ومعه عدد من زملائه الداعين الى تحرير الفلاحين المملوكين اقطاعيا، واقتيدوا الى السجن؛ للمحاكمة . ومكث في السجن ثمانية اشهر، قبل ان يوقظوه ذات صباح؛ كي يسمع ومن معه الاحكام الصادرة بحقهم . حملوهم في سيارة الى احدى الساحات، ووجدوا في منتصف الساحة منصة اعدام مغطاة بقماش اسود، وحولها الاف جاؤوا؛ ليروا تنفيذ الحكم.

لم يصدق(دوستيفسكي) عينيه، هل من المعقول ان يتم تنفيذ حكم الاعدام فيه وفي من معه؟ انه امر لم يخطر على بال اكثرهم تشاؤما. وبعد لحظات من الانتظار الثقيل، جاء الضابط ليتلو عليهم الحكم:"كل المتهمين مدانون بالسعي للاطاحة بالنظام، وقد حكم عليهم بالاعدام رميا بالرصاص". اعطي السجناء اقنعة، وتقدم احد الكهنة؛ ليقرا عليهم الشعائر الاخيرة.

وقف الرجال بعدما اسدلت الاغطية على وجوههم، ورفع الجنود البنادق، وصوبوها نحوهم، وقبل ان يعطى الامر بتنفيذ الحكم، وصلت عربة مسرعة الى الساحة، وترجل منها رجل يحمل مغلفا، ونادى الضابط قائلا: اليك هذا سيدي، فاذا فيه حكم نهائي بتخفيف العقوبة، بقضاء اربع سنوات من الاشغال الشاقة في سجون سيبيريا، يتبعها فترة خدمة في الجيش¡

كانت هذه اللحظة هي البداية الحقيقية لاسطورة(دوستيفسكي). ويسجل هذه اللحظات في رسالة التي بعثها الى اخيه يقول فيها:"حين انظر للماضي، الى السنوات التي اضعتها عبثا وخطا، ينزف قلبي الما. حياتي الان سابدا من جديد".

قضى الرجل فترة العقوبة ... ولانه لم يكن مسموحا له بالكتابة في السجن؛ فقد كان يحتفظ في ذهنه باحداث رواياته، وبعد خروجه، راى العالم ابداعات(دوستيفسكي)، حتى ان اصدقاءه كانوا يرونه وهو يمشي في الشارع متمتما بحوارات ابطاله، غارقا في حبكات قصصه.
كان يغضب ممن يتحدث بشفقة او تعاطف عن ايام سجنه، بل كان يشعر بامتنان عظيم لتلك التجربة، فلولا ذلك اليوم من شهر كانون الاول عام 1849م لضاعت حياته في عبث لا طائل من ورائه.

وقد كان كلما احس بالسكينة والهدوء والراحة، ذكر نفسه بهذا اليوم العصيب، فينتفض، ويكتب، ويكتب. هذه كانت طريقة(دوستيفسكي) في الحياة؛ ان ياخذ رشفة من فنجان الموت، الذي كان في لحظة ما قريبا من ان يتجرعه كاملا.
كم حياة ستعيش؟

شؤال يحمل من البراءة قدر ما يحمل من الخبث¡فلو كان لابليس ان يغوي ابناء آدم بعبارة واحدة، لكانت هذه العبارة، فيفتح لهم بها بوابة الشهوة، ويلقي في قلوبهم بذرة الطمع والاثرة وحب النفس، ولم لا؟ وهو يؤكد ان حياة واحدة ستعيشها، يجب الا تذهب هباء، وعليك ان تنال فيها من اللذة ما قدر لك ان تنال، والا فستنتهي القصة وانت بطلها تعاني الحرمان.

وهو نفسه السؤال الذي سيعيدك الى التفكير في حياتك كلها، تلك الحياة التي لا تمثل سوى الجزء الاول من القصة، وليست القصة كلها حياتك التي ستعيشها، لتغرس فيها ما ستحصده يوم ان ينفخ في الصور.

والان، اي حياة من الحياتين ستعيش؟ حياة من ولد وعاش ومات؟ ام حياة من عاش ولكن لم ولن يموت؟ حياة واحدة ستعيشها، فهل ستجعلها بالف حياة، ام ستكون حياة ك(لا حياة)؟ ولديك وحدك الاجابة .

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Oct 19, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

كم حياة ستعيش؟Where stories live. Discover now