من نازح.

26 2 0
                                    

٢٠٢٣/١٢/٢٦

صديقتي العزيزة، سلامٌ عليكِ

لو تدرين ما ستبثه تحيتك فيّ من حياة لما تجاهلتها، لكن للوضع ظروف وعذرك مقبول.

سبحان اللّٰه ففي حكمته شؤون نجهلها، فها نحن ندخل في الشهر التاسع، وبعكسك يتقلب حالي كالليل والنهار ما بين الأمل واليأس، الغضب والعجز، وأكثر ما يُعذبني قلة حيلتي في هذه المأساة.
وصلتني رسالتكِ في وقتٍ كنت فيه في أمس الحوجة لكلمةٍ أو يد مجازٍ تمسح على رأسي وتخبرني بأنه لا بأس فستشفى كل الجراح. وصلتني بعد خمسة أشهرٍ من المعاناة، من جحيم شياطين الإنس، ولكم حمدت اللّٰه على خروجكم بالسلامة.
كنت أظن أن لدي القوة الكافية للثبات في منطقة الصراع، كنت أظنها أيامٌ قلائل ستمضي قبل أن نصل إلى وجهتنا القادمة، كنت أظن وخاب ظني.
لا أعرف كيف أصف شعوري، كما ذكرتِ هناك تبلدٌ في المشاعر وأخشى أن الحالة النفسية للجميع في تدهورٍ مستمر. فلا يمكن أن يعتاد الإنسان البشاعة التي تولدها الحرب. ولا يمكنه تجاهلها أيضًا فهو مغصوب على معايشة وتذوق مراراتها.
ما زالت أطرافي تتجمد كلما تقع مقذوفة بالقرب مني، الأصوات العالية أيضًا ترعبني، تذكرني بأصوات المداف والغارات الجوية. إنه كما يسمونه متلازمة ما بعد الصدمة. لأني أتذكر أشلاء الأطفال في الشارع المقابل حيث فقد الحي بهجته ومستقبله، وفي الليل تصتادني الذكريات المريرة، صياح الآباء والأمهات في المشافي المتهالكة، الدماء والأشلاء والجثث المتحللة، الكلاب المسعورة وهي تنهش الجثث، مظاهر الهلع وجنون البعض من هول الصدمات. كلها أشياء لا تُحتمل، أشياء لا يُغتفر ارتكابها.

أصبحت نظرتي للحياة مختلفة؛ أرى في كل الأشياء أطياف الفقد المفجع، أُمعن النظر في كل شيءٍ لأنَّ لدي إحساسًا بأنِّي لن أراه مرةً أخرى كالكثير من قبله، وإحساسي لا يكذب، الحرب لا تكذب.

صباحات السودان كئيبة، أناسه باتوا أطيافًا تتدافع هربًا إلى برِّ الأمان الذي يصعب الوصول إليه، الجميع مسافر، إلى أين لا أدري ولا يدرون هم أيضًا.
تُوجعني الملامح الباهتة، التساؤلات المؤلمة وإجابتها الموحدة. وكعادة الناس الطيبين في بلادي يبدؤون الحديث بلا مقدمات، تقول لي المرأة العجوز في السوق ونحن نراقب النزوح الجماعي:
«لستَ من هنا، من أين أتيت؟»
فتجيبها من أي عاصمة للخراب أو النزوح قد هربت، فترد بإيماءةٍ مليئةٍ بالوجع والأُلفة والحنين:
«أنا أيضًا. لم يعد لدينا حلٌّ سوى الفرار.»

ثم فجأة، يخطر على بالي سؤال ماذا عن الأحلام المؤجلة؟ لا أقصد تأجيلًا بسبب الكسل أو تعكر المزاج، بل لأسباب قاهرة وتعجيزية كحربنا العبثية التي لم يكن الخاسر فيها سوى المواطن المغلوب على أمره، وتبقى إجابة السؤال في علم الغيب، ويتبقى لدي بعضٌ من الأمل وكثيرٌ من الألم.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jan 24 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

رسائلٌ قيد الإرسال.Where stories live. Discover now