البيت الخاوي

5 1 0
                                    

ها هي ذي عطلتي الصيفية تمضي مملة رتيبة وبلا احداث تذكر.

حرصتُ على المضي قدماً فيها، ولم اكن اريد ان اندم في ما سيأتي من ايام واردتُ بدأ حياة جديدة.

تناولتُ طعاماً صحياً بأقصى ما يمكن لمواردي الضئيلة ان توفره، واستسلمتُ لأدمان السكر.

لم استطع التغلب عليه مهما حاولت، رغم استنزافه لمواردي-المستنزفة اصلا- الا انه احتل المرتبة الاولى في قلبي فهو مسرتي الوحيدة في هذه الفترة المملة من حياة طالب في المرحلة الاخيرة من الثانوية

لكن اليس ادمان السكر افضل من غيره من الاشياء التي يمكن للانسان ان يُدمن عليها؟ اليس السكر برغم كل ما يسببه من عسر هضم وامساك وبثور وحب شباب مقزز افضل من ادمان العادة السرية مثلاً؟ او ادمان مشروبات الطاقة التي تضعف القلب وتنهك الجسد؟ انا اراه افضل كثيرا منها

اذا اردتم الحقيقة فما اقوله ليس الا تبريرا لضعف ارادتي فانا لا استطيع التغلب على هذا المسحوق الابيض لشدة تعلقي به، وهو يقف دائما عثرة في طريقي نحو حياة اكثر استقرارا وصحة، على الجانب الاخر فهو يوفر لي ما لا يستطيع اي احد ان يقدمه الا وهو السعادة،.. مهما كانت هذه السعادة زائفة ومغلفة بالسَّم

نعم، تناولت طعاماً صحياً ومارست الرياضة-آلمتني عظامي لدرجة لا تطاق فسرعان ما أوقفتها- وتعبدتُ وتهجدتُ من اخر الليل الى اول النهار ومع ذلك مازلت اشعر بالخواء

لم استطع ان احدد السبب، أكان اسلوب الحياة البوهيمي الذي اتبعته طوال اعوامي القليلة؟ ام انه بسبب افتقاري لأي رفقة؟ أهي الوحدة ما يكدرني ام ماذا؟ كيف يمكنني ان اعرف سبب الشعور الكريه بالفراغ المعتمل في صدري؟

وكان الاسهل من هذا كله تجاهل الشعور قدر الامكان ورميه الى العدم

وما زال هناك شعور بالقلق يراودني، خلال هذه الاشهر الثلاث التي قضيتها اتقلب في سريري واقرأ اي رواية او قصة مهما كان مستواها رديئاً ولم اترك فرصة لتضييع الوقت الا انتهزتها.

لكن هذا لم يساعدني في شيء مازال علي التفكير فيما ينبغي ان افعله، اليس هذا هو الشباب الذي لا يتكرر؟ كيف يمكن ان استغل افضل سنوات عمري كما ينبغي؟ انني اضيعها في القراءة واطلاق الريح من على سريري وامضي على قدم وساق في اكتساب المزيد من الوزن.

الشهوة الوحيدة التي منحت لنفسي الاذن في ممارستها هي شهوة الطعام، ولانه الشيء الوحيد المتاح لي من قائمة المتع الدنيوية، ولكم احتقرت نفسي لذلك، لا يمكنك ان اخذ حاجتي منها والاكتفاء، لا! كان علي ان انكب على المزيد من الطعام والتهم كل ما تصل اليه يدي كخنزير بشري! رغم اني لا اجد لذةٍ فيه، فلا طعمه او شكله يساعد على التلذذ فيه. لكن بعد ان عرفتُ نفسي على اني خنزير بشري كنتُ قد فقدت الحق في التذمر والانتقاد، فالخنزير يأكل كل شيء دون تمييز او اعتراض حتى فضلاته وهذا ما كنت افعله.

وما زاد كراهيتي لنفسي هو اني كنت احشو بطني واترك عقلي فارغاً، ولم اكن ابالي في ذلك

كنتُ اقرأ فيما اقرأ روايات الادب العالمي وكل ما انتجه دوستيفسكي وليو تولستوي وتشيخوف ونجيب محفوظ وغيرهم، اي الضرر في هذا؟ حسناً كنت امل ان تلاحظ ان هؤلاء الكتاب ليسوا اكثر من رواة، يحكون حكاية، يروون قصصاً حدث او لم تحدث الا في رؤوسهم وامضيتُ شهوراً في التهام مؤلفاتهم.. فألي اين اوصلني ذلك؟ صحيح انهم ساعدوني على تغذية خيالي الضعيف واكتناز بعض المفردات اللغوية التي تجعلني اتكلم كأني شخصية من كتاب، وقد ضايقني ذلك اكثر مما افادني، فالى جانب ضعف شخصيتي وضحالتها كانت تضهرني على انني مجرد ظل، شخص غير موجود، ريما لأني سعيتُ الى الاختفاء بملئ ارادتي، وتحاشيتُ اي تواصل بشري مع اقراني، فكان ذلك كله قد اودى بي الى ركن معزول، بعيداً عن الرفاق والاصحاب الذين حلمتُ بالحصول عليهم، كان هذا خطأي انا بالمقام الاول واحب ان القي بعض اللوم على والديَّ الذين يبدو لي انهما لم ينفقا وقتاً في تربيتي، على اي حال لقد ضيعت وقتي في قراءة الروايات وملئت مخيلتي بصور شتى عن الفقر والعذاب والتخاذل الانساني الذي نمارسه على بعضنا البعض، ومع ذلك مازلت اشعر بالخواء

بالتأكيد لم تكن القراءة لهؤلاء الكتَّاب بما يمكن ان يملئ هذا الفراغ، لكن في وقتٍ مضى كانوا رفاقي الذين افتقدتهم في الواقع، لعدم قدرتي على اكتساب اي صداقات، لكنهم لم يملئوا الا حيزاً صغيراً من الثقب الذي في صدري

ليست العلاقات الانسانية ما يعوزني، رغم افتقاري الشديد لها فلم اكن اطمح اليها، فقد عرفتُ من البشر ما يجعلني انطوي على نفسي واكتفي بها راضياً مسروراً.

انما هو الشعور بأني انغمستُ في عالم زائل، وفي لذة مؤقتة، يمكن ان تُسحب مني في اي وقت متى اقتضى مانحي اياها ان الوقت قد حان لتركها، ليس التخلي عن ما املك هو السبب في هذا الشعور، فماذا املك حتى اخشى ان افقد؟ ثروتي المادية لا تتعدى جسدي وما عليه من ثياب، هذا اولا، اما السبب الثاني هو اني خارج اطار الزمان، الوقت اثمن ما في الوجود ومع ذلك فهو يتسرب مني، ببطأ لكن بوتيرة متسارعة، وانا ادرك حاجتي اليه ورغم هذا فأنا لا استغله كما ينبغي بل اتركه يتسرب حتى ينفذ، لا اشعر بأن هذه هي حياتي واني انا من يعيشها، انا احيا داخل هذا الجسد الذي يأكل ويشرب ويتغوط ويتألم، لكن من انا بالنسبة الى هذا الجسد؟ انا اضيق به، وهو لا يطيق وجودي فيه، فيتجاهلني منساقاً وراء شهواته

وحين يغيب في تلك اللذة، لذة ملئ بطنه برديء الطعام وانفاق وقته في التفاهات، لينسى وجودي فيه، وليتحاشى تأنيبي كان علي ان انزوي في ركني واحدق اليه بوجوم، دون ان اقوى على ردعه، سبق ان وصفته بأنه خنزير على هيئة بشرية لكن الخنزير حيوان بلا عقل وهذا الجسد البشري يملك وعياً كاملاً بعواقب افعاله ومع ذلك يمضي قدماً فيها لا يلوي على شيء، ولا اجد سبيلاً للخروج منه والهرب من هذا الجحيم المخزي، اني اتوق الى ما هو ارفع من مجرد حياة بهيمية تقتضي الاكل والنوم والمزيد من الاكل والنوم

ولا استطيع ان اعرف حتى ماهيتي، ما انا، ماذا اكون؟ كيف انتهى بي الحال في هذا الجسد الانساني الذابل؟

واين السبيل الى الخلاص منه؟

عجوزٌ كذابحيث تعيش القصص. اكتشف الآن