انتقال

6 1 0
                                    

لطالما رُميتُ بتهمة الكسل وانعدام النظافة

كنتُ اسكن في غرفة ضيقة مع اخواي الكبيران شأن اي اسرة متوسطة الحال

وكان هاذان البغلان يتندران علي وعلى سلوكي المثير للاعصاب اذ انني كنت الفرد الاقل اهتماما بالنظام وكثيرا ما تركت الغرفة في معمعة من الملابس المتسخة والنظيفة واواني الطعام المركونة في زاوية ما، رغم انني لا اجد شيئا مما يقولانه صحيحا، انا لا انظف لكني لا اوسخ ايضاً، اعيش في فضائي الخاص، في الركن الابعد عنهما قرب الباب ليتسنى لي الهرب متى رغبا في النيل مني

كنت اقضي معظم وقتي في سريري متعزياً بأن لا مكان اخر في العالم يمكنه ان يضم شخصاً مثلي، وكنت استمتع بالاستلقاء في الفراش دون رغبة في القيام بأي شيء وابقى هكذا وقتا طويلا دون ان امل والاغطية تصل حتى ذقني فيغمرني احساس محبب بالراحة.

لم املك الكثير من المقتنيات ليس لدي الا حقيبة اضع فيها ملابسي فلم احضى بأمتياز ان امتلك خزانة ملابس كالاخوين اللذين سبقاني في الولوج الى الوجود، ولم اترك هذا يضايقني، ماذا كنت لافعل بخزانة ملابس؟ ألدي ملابس حتى اضعها فيها أصلاً؟  وما اطلق عليه مسمى ملابس ليست في الواقع الا كومة خرق، اهترأت لكثرة الاستعمال، لكني لستُ ممن يكترث لهذه الامور، ماذا اريد من الملابس غير ان تستر جسدي وتدفئني؟

غير اني اطمح لمستوى معيشي افضل، وان ارتقي بطبقتي الاجتماعية، وعندها لن افوت فرصة اقتناص كل الملذات الدنيوية الحقيرة التي لا استطيع الحصول عليها في الوقت الحالي، ولست اعرف السبيل الى ذلك

عندما انتقلت الى غرفة الاخوة الكبار-اذ كنت اعيش في غرفة الاخوة الصغار مع اربعة منهم- كنت انام على الارض بينما يتنعم اخواي بسريرن مستقلين، وقد اربكني هذا الانتقال والتقسيم الطبقي الجديد،
وسرعان ما تعرفت على عالم جديد، الاخوة الكبار وصلوا مبكراً وحصلوا على كل الامتيازات المتاحة ولم يتركوا لاخوتهم الصغار شيئا، اللهم الا الفتات

كانا يكبرانني بسبع الى ست سنوات، اي ان التفاهم بيننا كان مستحيلاً

كان علي ان اجد مكاناً في الغرفة الضيقة، احشر فيه وسادتي وحقيبة ملابسي، وقد تركا لي ركناً معزولا منذ وقت طويل، يبد انهما كانا يتوقعان انتقالي عاجلا غير اجلا، رغم انهما لم يرحبا بهذا الانتقال ولا لوم عليهما فالغرفة الضيقة الصغيرة لا تحتاج مزيداً من التضييق باضافة فرد جديد فيها، لكن حاول ان تقول هذا للوالد

وكنت راضياً بهذا التجديد فهو اعتراف بي بصفتي اخاً اكبر الان لا طفلاً غبياً صغيراً وهذا يعني الارتقاء الى مستوى اعلى بكل تأكيد، على الاقل في عالمي الصغير

على غرار غرفة الاخوة الصغار فأن غرفة الاخوة الكبار تفتقر الى جهاز تكييف، ومن العجيب ان ذلك كان قد شكل فارقاً كبيراً بالنسبة لي، اذ رحت اتطلع الى جهاز التكييف على انه وهم من اوهام الطفولة لا وجود له في عالم الكبار القاسي

كان ذلك محتملاً ايضاً، فيجب على المرء ان يستقبل حياة جديدة بتحديات جديدة، لا ان ينهزم من اول ضربة 

كانت علاقتي باخواي جافة فرغم مكوثي معهما في غرفة واحدة الا ان ذلك لم يؤدي لتقوية علاقتي بهما، كانا متفاهمين فيما بينهما وكنتُ كالطفيلي، شيء زائد عن الحاجة ولا داعي له، لكنه مع ذلك موجود

وحين تصبح اخاً اكبر لا تعود تحفل بالاخوة الصغار
واذ لم يكن هناك من اتواصل معه فكان من السهولة بمكان ان انزوي في ركني كما ينبغي لنزيل جديد لم يتعود بعد على زملائه في السكن

ولأني كنت صموتاً لا اتكلم الا اذا سُئلت عن شيء يقتضي ان اتكلم كان من اليسير عليهما ان ينسيا وجودي تماماً فعشتُ كشبح لفترة طويلة من الوقت ادرس اوضاعهما والفوارق بيننا، وتعرفتُ على مكانتي كأخ اكبر تحول فجأة الى شبح
كان ذلك طبيعياً في حالتي اذ لا شيء يمكنه ان يبدد الهالة الغريبة التي لففتُ نفسي بها، كنتُ متديناً الى حد ما فيما كانا ملحدين، وقد حصلتُ على مكانة لا بأس بها عند الوالد بهذا الايمان، فكان يبقيني على مقربة خشية ان اتأثر بهما، ولأني كنت الابن المتدين الوحيد من بين سبعة ابناء افلا يعد هذا امتيازاً؟

كنتُ قد عانيتُ وحدة غير يسيرة عند انتقالي الى هذه الغرفة الضيقة، فلم اكن اشبههما ولم يشبهاني في شيء ولم يكن هناك ما يمكن ان نتكلم فيه-باستثناء المهام والواجبات- فلم يكن بامكاني الاقتراب منهما اكثر مما فعلت، ولا يبدو لي انهما مقتنعان بكوني موجوداً الى جوارهما بهذه الصفة اذ انني ما زلت اخاً صغيرا بالنسبة لهما، كما توحي بذلك النظرات التي يلقيانها علي من فوق

هكذا اقتصر نشاطي على تنظيف القذارة والبقاء في فراشي طوال النهار، لم يكن هناك ما يمكن ان اعمله
كنت-في فترات نشاط محدودة-اجمع قناني البيرة الفارغة من القمامة وابيعها لقاء ثمن بخس الا انه كان يكفي لان امارس نوعا من الترفيه الجذاب في تجربة التفكير بما يمكن ان افعله ببعضة قروش، ابقى افكر يما ينبغى ان انفقها فيه ويمضي اليوم دون ان اتصرف فيها، لعجزي عن اتخاذ قرار بالغ الاهمية كهذا

وفي مسكني الجديد-كنت انام على الارض- ظهرت مشاكل جديدة كالجرذان على سبيل المثال، انها كثيراً ما تتجول في الغرفة بحثاً عن شيء ما تضعه بين اسنانها وتقضمه

لم يلاحظا وجودها لانهما كانا مرتفعين عن الارض بما يكفي ليتركا مشكلات من هذا النوع على عاتق الوافد الجديد، كانت الجرذان كبيرة الحجم نوعاً كما لو كان هناك من يقوم بتسمينها لغرض ما، كريهة المنظر بأسنان حادة بارزة وعيون صفراء صغيرة لامعة وذات احجام كبيرة نسبياً تناهز قطة في حجمها

يبدو انها وجدتني فريسة سهلة، فما ان اغيب في النوم حتى اجدها تقضم اصابع قدمي محاولة نهش لحمي، استيقظ مذعورا، والجرذ اللعين لا يخاف، لا يهرب فأضطر انا الى الهرب

وحقيبتي لم تسلم من هذا الاعتداء، فقد وجدتها مقضومة هي ايضا حتى صارت بالية تماما كالملابس التي تحويها

ولم يدم هذا الوضع طويلا، فبفضل علاقتي الطيبة مع الوالد-وكنت احرص عليها- تقرر حصولي على سرير انا ايضا، كان ذلك بعد شهور من انتقالي، لكن اين تضع سريراً اضافيا في غرفة صغيرة كهذه؟ لم تكن هذه مشكلة بالنسبة له اذ انه تخلص من خزانة الملابس الخاصة بهما ليكتفيا بحقيبة مثلي، وكان من شأن ذلك ان يقلل من الفوارق بيننا، الا انهما احتفظا بسخطهما تجاهي ولم يحاولا اخفائه فكان يتبدى بزعيقهما ونظرة الكراهية التي يلقيانها علي بين الحين والاخر، وماذا يهمني من ذلك كله؟ فقد حصلت على ما اريد

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Aug 03 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

عجوزٌ كذابحيث تعيش القصص. اكتشف الآن