رَسائِل من قلبٍ مكلومٍ لقلبٍ حَيٌّ عند ربِّه

6 1 0
                                    

جَلََستْ على أريكةِ غرفتهما ، تلك الأريكة التي شهدتْ على كثير من حكاياه ، جلست تكتب له رسالة لا تعلم ما هو ترتيبها و لا حتى لما تكتبها ، لكن ما تعرفه حقًا أنها تشعر بالرَّاحة بعد كل رسالة تُخاطبه فيها:
مُـؤمن.
سلامُ اللّٰـهِ على روحك المُنَعّمة في الفردوس بإذن بارئها.
مَرَّ على فراقك اليوم عامان، عامان يا مُـؤمن تجرعتُ فيهما مُرَّ الوحشة ، و حرارة الشوق ، ولهيب الإشتياق .

عامان و أنا أنام على صُورتك بحضن أجفاني
عامان مرَّا وكأنهما دُهورٌ.

أتذَكَّرُ مواقفنا معًا ؛ بدايةً من إتيانك لخطبتي ، حينما أتت الخالة سُعاد في منزلنا لتخبر أمي عنكَ و أنك تبحثُ عن عروس ..

كنتُ أراقبهما من بعيد ؛ من باب غرفتي بعدما واربته قليلا ، لم أسمع شيئاً ممَّا كانا يتحدثان فيه ، ولكنِّي رأيتُ وجه أمي يتهلل شيئًا فشيئًا مع حديث الخالة .
ثم أردفت أمي في بهجةٍ : يا مرحبًا به يُشرِّفُنا في أي وقتٍ شاء .

أتَتْ أمِّي لي بعدما ودَّعت الخالة ، وقالت : الخالة سُعاد أتت لخطبتكِ لابن جارتها .
أُمْتُقِع وجهي حينها وقلت لها : لا ، لا أريد مازلتُ صغيرة .
قالت لي : "لم تعودي صغيرة ؛ من هُنَّ في سنكِ ٱنتهينَ من الإنجاب ، و يُخَططن لزواج أولادهن ، ثُمَّ لا تتمردي كثيرًا ربما لا تُعْجيبينه،
الولد سيرتُه عطرة ولا يُردُّ"

رددتُ على أمي بتهكم: ماذا..! من هذه التي لا تُعجبه !!
و هل سيجد من هي أجملُ مني..!!

رددت عليا أمي بشفقة : الجميلات كثيرات يا بنيتي، ولكن ليس هذا ما يصمدُ في وجه الرياح العاتية ، ويحافظ على البيوت ويربي أبناء الرجال ، إنَّما العقل ، العقل يفعل يا بُنيَّتي.

أتيتَ أنت بعدما حددت معادًا للرؤيا مع والدي ، خَرجتُ للقائك ، رأيتُ فيكَ شيئًا مُختلفًا حتى الآن لم أستطع تفسيره.
لم تكن جميلاً ذاك الجمال الأَخَّاذ ؛ و لكنك كنت جذَّابًا.

كانت هيْئتُكَ هيئةُ رَجلٍ مُهاب رُغم صغر سنك.
تفرض سطوة احترامك وهيبتك على الجميع حتى الأكبر منك.

لم تُجمِّل لي الحديث ، ولم تُزوِّق الكلمات ، ولم تَهتمَ بزخرفة الجلسة ، كنت واقعيًا إلىٰ أبعدِ حدٍّ ، و الأهمُ من ذلكَ أنكَ كنت بسيطًا كما كان حالُك دوما ؛ لكنك أبدًا لم تكن عاديا.

حدَّثتني عنك وأن حياتي لن تكون سهلة معك أبدا .
خبَّرتني أن طريقك وعرة وطويلة ، و أنك لن يستكين لك نفسٌ حتَّىٰ تُنفقَ كل دمائك -التي تنبضُ بها عُروقك - في سبيل اللّٰهِ

حدَّثتني أن تلك "البُندقية" التي تحملها على صدرك هي لك بمثابة "عصا مُوسى" التي ستشقُ بها من البحر طريقًا لقومِك كي يعبروا ءامنين.

ثُمَّ سألتني :"فهل تصبرين؟"
وجدتُ نفسي أنطقُ حينها -ولا أعرف كيف فعلتها- :"أفتديكَ بروحي لو تطَلَّب الأمرُ".
ظهرت على ثغركَ ابتسامة أسرت قلبي، وددتُ لو أفتديها بكنوز الأرض جميعًا ولا أُحرم رؤيتها.

المواقفُ بيننا تموج كالريحِ العاصف في ذاكرتي .
كل شيءٍ يُذكرني بكَ : الكلمات ، المواقف ، الأمكان ، والصور.
أُفتش عنك في وجوه البشر فلا أجدُ لك مثيلا وكأن أشباهك الأربعين قد اختُزلوا فيكَ أنت.
أنا لا أنساك يا مُؤمن ولو لبرهةٍ.

تَذكُر بعد عقد قِراننا عندما باغتَّني و أن أقف على سطح منزلنا أراقبُ السَّماء .
أتيتَ من خلفي قائلاً بابتسامتك -التي لم تكن تفارقك -: يا ويحي قمرٌ يراقبُ قمرا.
شهقتُ من أثر الخضَّة ، فسألتني -أنتَ-:" كيف حالكِ؟" والحقيقة أن حالي لا يعرف كيف حاله حين يراك.
تلعثمتُ ولم أجبيكَ ، فخرجت منك ضحكة ذاب قلبي على إثرها ، وقلت :"ما بكِ، هل أكل القِطُّ لسانَكِ ! ؟ "

كشَّرتُ لك أنفي حينها ثم أتبعتُها بابتسامة ، علقت -أنت- عليها قائلًا :"أتعرفين : عندما تبتسمين تبدو إنغلاقة عينك شبه الكاملة والكرمشة التي تحل حول عيناكِ كأنها سِتارُ غمامٍ ينزاح كي يفسح المجال لشعاع الشَّمس ليدفئ كل مكانٍ عاث به الشِّتاء بردا وصقيعا، ابقي دومًا مُبتسمة ."

لم تكن تمَلّ من قولها لي حين أبتسم ولم أملَّ يوما من سماعها ، كان أثرها على أُذني في كل مرّةٍ كأنها الأولىٰ..

هاأناذا يا مُؤمن أبتسمُ ولكن إنغلاقة عيني شبه الكاملة اليوم تبدو كبحيرة تجمع بها الدَّمْعُ من كل حدبٍ حزين.

لا أخفيكَ سرًّا في كل مرَّةٍ كنت تغيبُ فيها كثيرا ؛ كنت أخاف ، كنت أخاف أن يكون قد مسَّك الضُّرُّ ، وأحيانا يتربص الشَّيطان في فكري فأقول أنك زهدت فيَّ.

أذكر مكافأتك لي بعد كل غيابٍ طويل ؛ كنت تأخذني لنتمشىٰ في الشوارع الخالية ليلا ، تشتري لي المثلجات أو نوع الحلوى المُفضل لدي.
لم تكن نزهتك بالثمينه ولكن هذا ما كان يسمحُ به وضعك ، والحقيقة أن الشَّيء الزَّهيد منك كان بمثابة حُمُر النِّعم عندي .

أتذكر حين غبت عني ثلاثة أسابيع متواصلة لا أعلم عنك شيئًا و لم أسمع صوتك حتىٰ.
أتيتني قبيل العشاء يومها ، حين سمعتُ صوتك فزعت إلى الباب أفتحه كضالٍّ في الصحراء وجد الماء بعد أن تشقق حلقُه من الظَّمأ ؛ فتحت لك ولم أستطع منع نفسي من البكاء ، بكيتُ حتىٰ ظننتُ أن الأرض رُويتْ تحت قدمي من دموعي .
قُلتُ لك عندما سألتني عن سبب بكائي أنِّي ظننتُك ٱستُشْهدت.
والحقيقة أنك أنت من نطقتها لأن تلعثمي حال بيني وبين نطقها ؛ أتبعتها ولازال ثغرُك مُزين بابتسامتك البشوش:" وما المشكله لو استُشْهِدتُ!!
أليس هذا مُنانا في هذه الدُّنيا ، شهادةً على طريق اللّٰهِ في سبيل نُصرة دينه؟ يا نائلة: هذه الدَّار التي نحياها ليست دَارَنا ، ليس هذا محيانا الحقيقي ، أرأيتِ لو استُدْعيتِ في بيتِ أحدهم للإقامة لبضعة أيام أو أسابيع أو حتى شهور ؛ أَتُقيمينَ به مُقام المالك؟! ، محيانا في دارٍ سنخلدُ فيها أبدا و لابُدّ أن يكون الخلودُ مُنعَّما حتَّىٰ يحلو المُقام ويطيب.'

أخرجتَ من جيبك بعدما انتهيت من حديثك-الذي كان دوما بمثابة بلسم يُشفي لسعات القلب- وتجفيف دمعي حلوايا المُفضلة و أخذتَ تُطْعمنيها بيدك الثائرة المثابرة المرابطة الشريفة .
أتصدِقُني يا مُؤمن لو أقسمتُ لك أن مذاق تلك الحلّوى مازال يجري بها ريقي .؟!

يا مُؤمن دعوت اللّٰهَ كثيرًا ألَّا يفرق شَمْلنا ؛ ولكنِّي أَظُنُّ -و ظَنِّي بربي خيرا- أنَّه ادَّخرَ دعوتي للآخرة ، في دارٍ سيكونُ جمعُ الشَّمْلَ بها حقيقة، سيَجْتَمِعُ شملنا يا مُؤمن جَمْعًا لا فِراق بعْدَهُ..

_رسائل من قلبٍ مكلوم لقلبٍ حَيٌّ عند ربِّه

.إِسْـرَاء نَصَّار.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 08 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

إِقتباسات.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن