28 5 10
                                    

اكتفت الأرض من مآسي البشر على سطحها، فاهتزت بهم ودكتهم ببعضهم دكًا ثأرًا من الفساد الذي أغرقوا بحارها به، آثامهم عادت لتنحرهم، والبنادقُ التي وجهوها في وجوه بعضهم انقلبت لتُفرغ رصاصتها ثاقبةً جماجمهم، فصارت الأراضي الصالحة للعيش معدودة على الأصابع ومُحاطة بضباب كثيف يُعمي ويُهلك من يقتربُ منه.

تقلصت مساحات الحياة إلى أقصاها، وما عاد العيشُ الرغيد موجودًا حينما انبثقت الغائلة في قلوب الناس، فبدلا من التكافل لحل هذه الفاجعة والحفاظ على الحياة طلعَ طغيانُ غرائزهم إلى قِممه، انتهت الحضارة مع انتهاء الانسانية في أفئدة سُكان "المناطق الغبراء"، فحُلل بينهم القتل والنهب والسطو، وصارَ الشريفُ مُمردغًا بالوحلِ القذر، وطلعَ النشالُ بجهله إلى العُلا.

في "مدينة الترح" حُرم الرجل الأثيل، كثرت المناوئ وأُستبيح الاغتيال والترهيب، فاختبئت الشمسُ خلفَ الغيوم ولم يُرى منها شعاعٌ لدهرٍ طويل، لم يُعد الليل عن النهار يُفرق، وفي هذا الدجن الحالك أُصيب الناس بشتى الأمراضِ والأوبئة، وصار موت المئات في يوم لا يؤثرٍ في القريب والغريب إلا من سكنَ في نفسه وهجٌ من الرحمة التي لم تتلوث بفسادِ الهواء.

أحدهم كان قُرب باب منزلٍ قصدريٍ واقف، يُخفي الجزء السفلي من وجهه بوشاح أسود يتدلى على صدره وكتفيه، ويرفعُه بأطراف أصابعِ يده الثلاثة كلما انزلق إلى رقبته.

وسطَ ضوضاء هذا الحيّ ينتظرُ، تخترقُ مسامعه صرخات مُتشاجرين وتحطيمات مِن لهو مفسدين، فزفرَ أنفاسًا مُغللة بالاشمئزاز من صدره، حتى أتى خلاصُه بفتحِ الباب وخروجِ شابة من السكنِ الضعيف.

بها لمحة اسمرارَ مميزة وعينان متباينتان احداهما دعجاء والأخرى للرمادي تميل، ورغم شحوب وجهها الفظيع والهالات التي زينت جفنيها طبعت ابتسامة واسعة على ثغرها داعيةً صاحبَ الوشاح للذهاب.

مضت الشابة غَسق مُتقدمة الطريق وآزِر خلفها يسير، يُلقي بنظرات حذرة على المحيط حوله فلا أمان في هذه المدينة موجود، فهي إحدى البُقع التي لم يستولي الضبابُ المُهلك عليها، إنها "مدينة الترح" إحدى "المُدن الغبراء"، وكان من حظه المسرور ألا يلاقي مصيرَ المصابين بالأوبئة فيها، فمن يمرضُ يموت دون حل أو نقاش، وهذا ما رآهُ أمام عينيه قبل أقل من أسبوع.

شقيقته الصغرى، والتي تكون كذلك صديقة غسق، فتكَ الطاعون بها وأرداها قتيلة بعد أشهرِ من المعاناة، ولو ما تزالُ الأجهزة الالكترونية تعملُ لأضيفت إلى أعداد الموتى، لكن آزر يدرك في نفسه أن أختهُ من عاشت وذاقت مُر الدنيا دون حُلوها لن تكونَ يومًا رقمًا، لذا احترامًا لذكراها انضمَ إلى غسق التي بادرت بطرحِ اقتراح غير معقولٍ يوم العزاء.

"تركت هَتان رسالة."
دخلت غسق إلى الموضوع دون مُقدمات، وآزر الذي أراد طردها من منزله -الزاوية القصديرية- سُرق اهتمامه رُغمًا عنه، فتابعت الشابة: "كانت تُريد دائما رؤية ما بعدَ الضباب، فكتبت رسالة لتوصِلها إلى الأحرار القاطنين خلفه."

ضباب الغسق✓حيث تعيش القصص. اكتشف الآن