بدأت أشعة الشمس تدخل ركن الصلاة الضيق في منزل مهند، صبح جديد يطلّ على هذه الأرض متدثّرًا برداء الدّفء مخفيًا ويلات القهر والعذاب. هذا مهند يراقب طلوع الشمس من زاويته وفي وجهه آثار قلة النوم، يبدو سارحًا تائهًا حيران فيما آل إليه مصيره في هذه الأرض. تنهد وحوقل قبل أن يقف متثاقلًا متوجهًا إلى خزانة كتبه الصغيرة، فتح عدّة أدراج مخرجًا منها أهم أوراقه، وحاسوبه ومقتنياته، ثم توجه إلى خزانته ليرتدي من ثيابه أدفأها وأصلحها، ألقى نظرة على منزله الصغير يتفقد لو كان هناك شيء يحتاج أخذه، قد يتوقع أحدهم أن الأشياء التي اشتريتها بشق الأنفس أشياء ستحملها معك مهما كلف الثمن، لكن بعد النزوح عدة مرات تفقد الأشياء قيمتها، وتكتفي بحمل روحك تاركًا كل أدواتك، وذكرياتك خلفك.
كان قرار مغادرة هذه الأرض صعبًا على مهند، لم يكن من السهل أن يحصل على فرصة للعمل بشهادة تخصصه هنا في السويد، كان الأمر دائمًا معقدًا على اللاجئين، ثم أنه أخيرًا حصل على وحدة سكنية قانونية ليعيش فيها بعد سنوات من الانتظار، بدا الأمر كما لو أن هذه البلاد الباردة القاسية قد ضحكت في وجهه أخيرًا، لكن الخوف كان يتسلل ببطء إلى قلب مهند ويبدو أنه بلغ منتهاه اليوم.
مشى مهند في شارع ترابي خاوٍ بينما يتابع الأخبار على شاشة هاتفه، كان يتصفح المقال تلو المقال، والقصة تلو القصة، لقد بدأت الدول الأجنبية تفرض الخدمة العسكرية على الشباب، قد يكون دوره اليوم، أو غدًا ليتلقى رسالة تشعره بوجوب توجهه للصفوف الأمامية، لقد هرب مهند من سوريا لأنه لم يرد أن يتجند ليقتل أهله، سيكون من السخيف أن ينضم إلى جيش أجنبي الله وحده يعلم في أي أرض مسلمة سيلقونه ليقاتل.
لذا بالضبط قرر الهرب، وبينما كان يجلس في محطة القطار كان يفكر: لننسى الطبيعة الخلابة، وننسى الوظائف والوضع الاقتصادي، لننسى المساعدات وورقة الإقامة، والحصول على الجنسية، لأنجو بمبادئي وأغادر، أرض الله واسعة!
بدأ الخوف ينسحب من وجه مهند ليحل محله عزم وقوة، عادت عيونه الخضراء تلمع بجلد وعناد أهل الشام، تقدم نحو القطار الذي سيقوده إلى محطة ستوكهولم المركزية عازمًا أن تكون هذه مرته الأخيرة لاستعماله.
خريطة الطريق هي أن يركب قطارًا من أوبسالا إلى محطة ستوكهولم أولًا، ثم من المحطة بقطار آخر للمطار، ثم طائرة تخرجه من هذا القفص إلى أي كان من البلاد. ركب مهند القطار الأول إلى ستوكهولم وانتقل بشاشة هاتفه مباشرة ليحجز تذكرة إلى بلاد إسلامية يمكنه السفر إليها اليوم وعاجلًا، ورغم أن أسعار التذاكر كانت مرتفعة جدًا، لكنها ثمن حريته المنشودة، ومغادرته الطارئة.
عندما تأكد مهند أنه أنجز كل ما عليه ولم يبقى سوى الانتظار ارتاحت قسماته المشدودة منذ الفجر، اتكأ على عامود من الأعمدة الموزعة على طول المقصورة، وبدأ يتفحص الناس حوله، لقد تجاوزت الساعة السابعة لذا فقد انطلق الناس إلى أعمالهم التي ستبدأ في حوالي ساعة أو ساعة ونصف من الآن. أناس تبدو في هيأتهم أناقة البدايات، وآخرون من الواضح أنهم بالكاد استيقظوا ولحقوا بالقطار.
لكن من بين الهيئات المألوفة للعاملين برز رجل يحمل حقيبة تخييم وحقيبة ظهر مدرسية، يهز ساقه باستمرار، ويقلب عينه بين شاشة هاتفه والنافذة والناس حوله، لم يبدو كشخص ذاهب إلى عمله، لذا فكر مهند: هل هو هارب مثلي؟
أنت تقرأ
هارب من الجحيم
Actionفتى يطارده الهم، في أرض لا تعرفه وشعب لا يعترف به، قصة مختصرة لمعاناة يمر بها كثيرون حيث قادتهم مصائرهم. الغلاف صممه مشكورون جنود التصميم، فامتنان عظيم لهم.