خطواتها كانت مترددة، لكنها تبعت الطبيب بصمت، وعيناها السوداوان تراقبان بقلق الجدران الكئيبة التي بدأت تتلاشى خلفها شيئًا فشيئًا. شعرت وكأنها تركت جزءًا منها في تلك الزنزانة الباردة. الهواء في الممرات كان أكثر نقاءً، ولكنه لم يكن كافيًا ليزيل ثقل الشك الذي بدأ يتسرب إلى عقلها."إلى أين يأخذني؟" كان السؤال يهمس في رأسها كلما قطعت خطوة جديدة. ظلت تحتفظ بصمتها، رغم كل الأفكار التي اجتاحت ذهنها.
مع كل باب يُفتح، ومع كل حاجز أمني يُتجاوز بسهولة غريبة، كانت تدرك أكثر فأكثر أن هذا الرجل ليس مجرد طبيب عادي. لكن ما هي خطوته التالية؟ ولماذا اختارها هي تحديدًا؟
تفتح عينيها ببطء، وكأنها تحاول استعادة وعيها من نوم ثقيل. الجدران المحيطة رمادية كعادتها، غير أن الشعور بالاختناق يبدو أشد هذه المرة. نفس الكرسي الحديدي البارد يضغط على ظهرها المتعب، وجسدها يئن تحت وطأة الألم. منذ متى كانت هنا؟ لم تعد تعرف.
"سنة ونصف..." همست في عقلها وهي تحاول تذكر آخر مرة كانت واعية تمامًا.
ألم حاد يخترق جسدها، وكأن كل عضلة فيها ترفض الانصياع. تتذكر كيف أغمي عليها أثناء أحد اختبارات الطبيب، تجربة أخرى من بين تجارب لا تنتهي، حيث كان يختبر قدرة تحملها لعقار جديد.
بصعوبة، تفك نفسها عن الكرسي وهي تكسر السلاسل التي تقيدها به، والقيود الحديدية تعض رسغيها وكاحليها. كل حركة تصدر صوت ارتطام السلاسل بالأرض الرخامية الباردة. تتوجه نحو المغسلة ببطء، عيناها تراقبان طريقها عبر الألم والغشاوة التي تسيطر على رؤيتها. تضرب وجهها بالماء البارد، آملة أن تستيقظ تمامًا من هذه الحالة المتخبطة.
تنظر إلى المرآة وترى انعكاسًا مشوهًا لذاتها السابقة. تلك الفتاة المتعبة، ذات العيون الرمادية الشاحبة والشعر الأشعث الطويل الذي اكتسى بخصلات بيضاء لم تكن موجودة من قبل.
قبل أن تستطيع أن تتمعن أكثر في انعكاسها، تصل إليها رائحة العطر الذي بات مألوفًا، مزيج غريب من شيء لم تستطع تحديده. يظهر انعكاسه خلفها في المرآة، واقفًا باعتدال تام، يديه في جيوب مئزره الأبيض.
صمته استمر لثوان، قبل أن يقطع هدوء الغرفة بكلماته المعتادة. "كيف حالك اليوم؟"
أجابت بتوتر وهي تستعد لما هو قادم: "بخير..."
ابتسم ابتسامة باردة، "جيد."
تتابع بحذر، "ما هي النتائج؟"
نظر إليها بثبات وأجاب ببساطة: "سلبية."
أحنت رأسها قليلاً، فهمت مغزى كلماته. "حسنًا... أنا قادمة."
في طريق العودة تذكرت أول تجربة أجراها الطبيب عليها بوضوح، كأن المشهد محفور في ذهنها. كان ذلك منذ سنة ونصف، عندما دخلت الغرفة لأول مرة، الغرفة البيضاء الباردة حيث كل شيء يبدو مصممًا بعناية لإزالة أي شعور بالراحة. كانت تجلس على كرسي معدني، وأمامها أدوات غريبة وأجهزة تقيس معدل نبضات قلبها وضغط دمها، تراقب حركة جسدها، بينما هو يقف في الزاوية، هادئًا، مستندًا على طاولة صغيرة.