الفصل الاول : "إيلي"

5 1 0
                                    

كان الليل قد سقط على المنزل القديم، لا صوت يعلو فوق صوت الصمت. في الغرفة الصغيرة المظلمة التي بالكاد تضيئها شمعة ضئيلة، جلست إيلي على طرف السرير المتآكل. كانت يداها ترتجفان وهي تمسك بدمية قديمة، قطعة قماش محشوة صارت باهتة ومتآكلة بفعل الزمن، ولكنها الشيء الوحيد الذي شعرت معه ببعض الأمان. وجه إيلي كان طفوليًا بدرجة مذهلة، بملامح ناعمة عيناها الواسعتان مثل عيون الجراء، بلمعة دائمة تعكس نقاءً وخوفًا عميقًا.

لم تكن إيلي جميلة فحسب؛ كانت تُشع براءة ورقة تجعلانها تبدو وكأنها خرجت من قصة خيالية. بشرتها البيضاء الناعمة كانت تشبه الحليب، وتفوح منها رائحة العطر الخفيف الذي احتفظت به والدتها في الماضي. وجنتاها كانتا دائماً محمرتين، كالورود التي تذبل ببطء تحت ثقل الحزن، ورغم صغر سنها إلا أن تعابير وجهها كانت دائمًا مليئة بالخوف والخضوع.

لم تكن إيلي مثل الفتيات الأخريات؛ كانت ضعيفة، هشة، لدرجة أنها لم تستطع الدفاع عن نفسها أمام والدها الذي لم يكن يرى فيها سوى عبء. لم يكن هناك من يسمع بكاءها الصامت في الليل، كانت وحدها، تمامًا وحدها. منذ وفاة والدتها، تحولت حياتها إلى سلسلة من الكوابيس المتكررة، لكنها كانت تعلم أن الأسوأ لم يأت بعد.

شعرت بحشرجة في صدرها. الخوف كان يُغلف كل لحظة من لحظات حياتها. كانت تشعر كما لو أنها محاصرة بين جدران هذا المنزل، بلا مهرب. كلما حاولت التفكير في الهرب، كانت تتذكر نظرات والدها القاسية التي تلاحقها في كل زاوية، وكأن العالم بأسره يضيق حولها.

بدأت دموعها تتساقط بصمت. لم يكن هناك صوت سوى ارتطام الدموع الباردة بالأرض الخشبية. كم كانت تتمنى أن تُحضن، أن تسمع كلمات دافئة تطمئنها، لكنها لم تعرف طعم الحب أو الراحة منذ زمن طويل.

في تلك اللحظة، كان قلبها مثقلًا بالخوف من المجهول. الخوف من والدها، الذي كرهها منذ ولادتها. الخوف من العالم الخارجي الذي بدا دائمًا مظلمًا. كانت مشاعرها متشابكة كخيوط عنكبوت، لا تعرف كيف تخرج من هذا الكابوس.

فجأة، سمعت خطوات ثقيلة تقترب من باب غرفتها. ارتجفت يدها أكثر وهي تعانق دميتها بقوة. ربما كانت مجرد ريح تمر بجانب النوافذ، لكنها تعلم جيدًا أن هذه الخطوات الحقيقية ليست إلا دليلاً على مجيء والدها. كانت الخطوات بطيئة، ولكنها كانت تحمل معها رائحة الخوف نفسها التي تعرفها جيدًا.

وصلت الخطوات إلى باب غرفتها، ثم توقفت. لحظة من الصمت القاتل مرت، شعرت فيها إيلي بأنفاسها تتسارع، وكأن قلبها يحاول الخروج من صدرها. الباب لم يُفتح، لكن وجود والدها خلفه كان يكفي لإشعال الخوف في قلبها الصغير.

مر الوقت بطيئًا، كأنه سكين يقطع اللحظات بعناية. إيلي لم تجرؤ على التحرك، لم تجرؤ حتى على النظر نحو الباب. كانت تعرف أن والدها هناك، يراقبها من خلف الظلام، يخطط لشيء لا تعلمه، وربما لم تكن تريد معرفته.

بعد دقائق طويلة من التوتر، سمعت صوت الخطوات يبتعد. شعرت بشيء من الراحة اللحظية، ولكنها سرعان ما تلاشت. كانت تعلم أن هذه الراحة لن تدوم، وأن الخطر لم ينتهِ بعد.

عادت إلى عناق دميتها، كما لو أنها الحاجز الأخير بينها وبين هذا العالم المليء بالقسوة. في قلبها الصغير، كانت تتمنى لو كان هناك من يحميها، من يمنحها القوة لتقاوم. ولكن حتى تلك الأحلام كانت بعيدة، مثل النجوم التي تراها من نافذتها الصغيرة.

مرت الساعات وهي تجلس في الظلام، تخشى حتى التفكير في ما قد يحدث. ثم، فجأة، سمعت صوتًا آخر، هذه المرة من الطابق السفلي. كان الصوت مختلفًا، ليس كصوت والدها المعتاد، كان خافتًا ولكنه يحمل معه شيئًا غريبًا، شيئًا يشبه الهمس. حاولت أن تصغي جيدًا، ولكن كل ما استطاعت سماعه هو اسمها: "إيلي..."

انقبض قلبها. لم تكن تتوقع أن يأتي ذلك الصوت في هذه اللحظة، ولا أن يكون اسمها هو الذي يُنطق. من يناديها؟ ولماذا الآن؟


لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 17 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

 أسيرة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن