استفاق على وقع ركلة حادة أطاحت بضلعه الأيسر ،شهق متألمًا، ثم رفع رأسه بصعوبة، ليجد أمامه جسّار واقفًا، يمضغ تفاحة بشراهة، وفي يده الأخرى تفاحة مدّها إليه وهو يقول بلهجة جافة:
ــ "انهض ، لتقط أنفاسك وكُل ، الوقت لا يرحم المتخاذلين."اعتدل أكرم ببطء وهو يتنفس بصعوبة ، قبل أن يلتقط القلادة التي رفعها جسّار في يده، وقال ببرود:
ــ "هل بحثت عن هذه؟ ارتدها، حتى لا تتركها لتضيع مجددًا."بيدٍ مضطربة، انتزع أكرم القلادة منه، وعلقها حول عنقه كما لو كانت درعه الأخير ، وبينما كان يقضم من التفاحة، استمع إلى صوت العم أيمن الذي كان حديثه كحد السيف:
ــ "مملكتنا لم تعد سوى رماد ، علينا أن نحتمي بإمبراطورية أسترو ، هناك فرصة للبقاء... لكن إن أردتم النجاة، فاستمروا بالسير."أقدامهم كانت تسحق الأوراق اليابسة، وساعات من المسير بدت وكأنها دهور.
لم يكن التعب هو ما أرهق أكرم ، بل أفكاره ، داخله كان يعج بأسئلة قاتمة : "ما نحن سوى شظايا مملكة ضعيفة؟ وهل سينصفنا الموت إذا انتقمنا؟ أم أننا مجرد أدوات رخيصة تُدفع إلى معركة لا تُكسب، حيث ينتهي كل شيء بالدماء والجثث؟"قطع أفكاره يد ثقيلة على كتفه ، التفت ليرى نوفل، الذي كان أضخم منه بشكل ملحوظ، يتحدث بصوت أجش ممزوج بسخرية:
ــ "لا تخف ، نحن لا نأكل الضعفاء هنا! أليس اسمك أكرم؟"بدأ الحديث بينهما يأخذ منحنى آخر ، كان نوفل يحدثه عن أفراد المجموعة، مشيرًا إلى كل منهم:
جسار، الذي وصفه بـ"الرجل الحديدي"، ذاك الذي عاش يتيمًا وسط الشوك، فاكتسب صلابة لا تنكسر. شُهب، الفتاة ذات الروح البركانية التي تخفي تحت مظهرها الرقيق بركانًا من الغضب ، وأخيرًا ريحان، ذات الشعر الطويل المنسدل كظلال الليل، التي كان في ملامحها أثر الوحدة بعد أن فقدت والدها.
لكن السكينة كانت مجرد سرابٍ متداعٍ، كما لو أن الحياة نفسها كانت تتهرّب منهم، تاركة إياهم في صمت قاتل.
عندما وصلوا إلى بركة ماء تتلألأ تحت ضوء القمر، كمرآة سحرية تنعكس فيها أشباح الليل، حاول الجميع استعادة أنفاسهم التي اختنقت في حناجرهم. كان المكان يلفّه هدوء قاتل، والماء شفافًا لدرجة أنه كان يكاد يخفي شيئًا مظلمًا يتربص في قاعه، كان هذا الهدوء يحمل في طيّاته رهبة خفية، كأنّه العاصفة التي تسبق الانهيار ، أكرم، الذي أصبح كظلٍّ في هذا الفضاء الموحش، ظلّت عيناها تتنقلان بحذر لا يُحتمل، كعيني صقر مطارد لأفراسه، يفتش عن كل غريب في الأفق .. وفجأة، انقضّت نظرته على ذيل يتلوى بين الظلال، يلتوي كأفعى في مستنقع، كان حجمه أكبر من المعتاد، ثم اختفى في اللحظة ذاتها كأنّه هباء، وكأن الأرض بلعته.ثم تخلّل السكون حركة غريبة بين الأشجار، وعينيْن لامعتين بلون الذهب في الأفق، كأنهما فوهتان تبتلعان النور، تتقدمان ببطء في الظلام.
ازداد صوت الحفيف الرهيب، ورافقته ضحكات حادة، كانت أشبه بصوت نساء مدفونات في أعماق الجحيم، لكنهن يحملن في ضحكاتهن مرارة لا تقاوم، شيئًا قاسيًا ينساب في العظام، يعصر الأمعاء ، كانت تلك الضحكات تسرّب شعورًا بالعجز، كما لو أن الزمن قد جمد في مكانه.ريحان، التي كانت تقف تحت شجرة ميتة، شعرت بشيء بارد ولزج يتساقط على رأسها، شيء ثقيل كالظلال التي لا تترك مكانها ، رفعت يدها بتردد لتلمس السائل الغريب، فوجدت نفسه يلتصق بجلدها كدمٍ متخثر، داكن كالليل ، رفعت رأسها ببطء، وأعينها تتسع في فزعٍ مطبق، ثم أطلقت صرخة حادة، صرخة مليئة بالعذاب، وكأنها صوت الروح في لحظة انكسار.
كانت هناك بومة، ولكنها لم تكن كأي بومة عادية ، كانت كائنًا كابوسيًّا، تجسيدًا للفزع المستمر ،عيناها الحمراوان كانتا كبركتين مغليتين من الدماء المسفوحة، تتوهجان في الظلام كحريق لا يمكن إطفاؤه ،منقارها الكبير المكسور كان يقطر مادة سوداء، كسمٍ يسحب الحياة دون أن يدرك أحد ، وعندما بدأت البومة بالضحك، كان الصوت يتسرب من أعماق الجحيم، صوتًا كالرعد المسموم، يتخلل الأجواء كما لو أنه بقايا أنين النفوس الملعونة.
ثم ظهر الكابوس الأكبر ،من بين الأشجار التي كانت ملتوية كأنها أطياف هائمة في مكانٍ لا وجود له، انبثق جسد أفعى هائل، سوداء كالحرير الذي ابتلع الضوء، كانت تلتهم الفضاء حولها، وعيناها كانت كقمرين ذهبيين مشوهين في سماء متجمدة، أطلقت الأفعى فحيحًا مرعبًا، صوتًا كالسيف وهو يقطع الأبدية، يخترق الآذان كما لو أنه هبوط الجحيم على الأرض.
صرخت شُهب بصوت يشق أعماق الصمت:
ــ "اركضوا... النجاة في الهروب!"
ركضت المجموعة وكأنهم قطيع من الفئران أمام صيادٍ لا يرحم، ريحان، التي كانت في قلب هذا السيل الجارف، أمسكت بيد شُهب وسحبتها بعيدًا عن الطريق الرئيسي، بينما دفع جسار أكرم ونوفل أمامه، وهو يصرخ بهم بحشرجة متهالكة:
ــ "لا تلتفتوا... استمروا بالجري!"
كان العم أيمن يحاول الصمود، لكن أمام الزحف الرهيب للأفعى، شعر أنه كان مجرد شجرة تسقط أمام الريح، اقتربت الأفعى منه حتى أصبح وجهها أمامه، عينيها التي كانت تبتلع الضوء، تغرقه في ظلماتها، للحظة، انبعثت منها رائحة غريبة، كعطر مغرٍ، لكنها خانقة، سمٌ غير مرئي يتسلل عبر المسام، يتسرب في أنفاسه ويأسره، لم يستطع مقاومة هذا الغموض، سقط مغشيًا عليه كما تسقط الزهور الميتة في قلب العاصفة .