1- هَكذَا بَدَأَت حَياتِي!

144 7 1
                                    

في إحدَى أيامِ الشتاء الباردِة وحين يغطي البياض معالم الأرضِ وأسقفُ البيوت ويعلو قمم الجبال، حين يقرص البردُ أطرافَ البشرِ وتنفُثُ الأفواهُ الهَواء كالدّخّانَ ! كانَت أَجسَادُهم تَلفّها المَعَاطِف والصّوف والملابِس الثقِيلة الدافِئةُ فِي حِين وجُود أَنفار مِن المَساكينَ المُشردِين يأكُل البردُ أجسَادهُم شيئاً فشيئاً ، ومن أمَامهمُ مرّ ذلِك الرّجل البَسيطُ يسِيرُ فِي سبِيلهِ ذاهباً إلى مَنزلِه ويفكّر بحياتهِ التِي هَدأت عواصِفها فَجأةً ، إستوقَفه صَوت أَنينٍ يَائسٍ ومَكتوم! التفتَ حَوله يمنةً ويسرةً أملاً في أن يَجدَ مصدَر ذلِك الصّوت ، فَلم يجِد حَولهُ سِوى صُندوقٍ خَشبي في بادئةِ الزّقاق ، فإقتَرب الرّجل أكثَر وألقَى نظرةً ليجِد طفلاً رضيعاً ملفوفاً بـ لحافٍ أبيض ووشَاحٍ أسودٍ بإطرافٍ ذهبِية جمِيلة قَد حِيكت حياكةً خاصة ، تراجَع بِخطواتِه للورَاء متردداً وخائفاً وكأنهُ يتَوقّع أُموراً قَد تحدُث، أدَار ظَهرهُ ليتَجاهل ذلِك ولكن ّبُكاءَ الطّفل يَعلو أكثَر وأكثَر فَـ حنّ قلبُ الرّجل وعَاد مُستَسلماً ،متجِهاً نحوَ الصّندوقِ بعد التّفكِير مليا
.
.
ليِحمل الصّندوقَ ويَحمِل ذلِك الطّفل مَعه ويركُض بُسرعةٍ تجنّباً للأمطارِ التِي بدَأت بِالهطُول بِغزَارةٍ حُينَها حِيثُ يُسابِقُ قَطراتِها ويَستَمرّ بالجريِ والقفزِ فوقَ بِرك المِياه التِي سبّبتها الأمطَار وتخَطّاها حتّى وصَل إلى مَنزلهِ ودخَل مُسرِعاً ،ف إستَقبلَته زوجتهُ بِوَجهٍ مُتعجّبٍ تَنظرُ للطّفلِ بَين يديهِ ! أَردف الرّجل قائلاً وهو يخلعُ حذائهُ " وَجدتهُ في الطّريق "
الزّوجة بِغضب "وهَل منزِلنَا ملجأٌ للأيتَام ؟"
الرّجل " وهَل كَان علَي أَنّ أترُكهُ لِلموتِ؟؟؟''
الزّوجة " إن لَزَم الأمرُ فإِفعل! كَيف سَنعتنِي بهِ ونحنُ لا نَعلم لأيّ عَائلةٍ يَنتمِي ،مَاذا لَو أتَوا لِلبحث عنهُ؟ ماذا لو كانَت عَائلتهُ خطيرةٌ ؟" وكَانت تِلك أعذَارُها
تجَاهَلها الرّجل " هَل يُمكنكِ إِرضاعهُ؟ "
الزّوجة صَرخَت " لَن يَدخلَ حَليبِي عَبر رِيقهِ ولَن يَذوقَ طَعمَهُ، فَأنا لَستُ مُرضعَه ،وإِبني رَضيعٌ أيضاً وهو أَولَى بِالحَليبِ مِن هَذا الطّفلُ الغَريبِ، إذهَب وإبحَث عَن مَن يرضعهُ وَلا تُدخلهُ إلى مَنزلِي "
تَوقّف الرّجلُ لِوهلةٍ ثمّ اقترَب والغضَب يَعتلِي مَلامحهُ " لا تُرضعيهِ إن لَم تَرغبِي.. ولكِن لأذكّركِ أن المَنزلِ مَنزلِي أنَا يا إمرأَه!"
إنسَحبَ الرّجل وتركَ زوجَتهُ فِي حِيرتها تصرّ أسنَانها وتشتُم ، دخَلت إلى حُجرةَ طِفلِها بِسُرعة وأغلَقَت البَاب بقوّة ، وبقِي الرّجل فِي غُرفتهِ والطّفل بِجانبهِ، يُفكر ويحدّثُ نفسهُ
Pov..
لَو كَانت عائلتهُ بِحاجةٍ إِليهِ لَما تَركوهُ كَالقطّ المُتشرّد فِي أزقّةِ الشّوارعِ، مَاذا لو لَم تتقبّل زوجَتِي بَقاءهُ بَين أحضانِنا! أَتستصعِب عَليهِ القَليلَ مِن الحَنان ؟... أَيضاً.. فِي كُل مَرةٍ أَتذكر بِها تِلك الحَادِثة يُجَنّ جنُوني وأتمنّى أن تُزال تِلك اللّحظاتُ مِن تفكِيري، ولكِن مِن أَين؟ هَل القَدر تعمّد أن يَكتبَ هذا فِي قَدري؟ أَم أنّها مُجرّد صُدفة!!
End pov...
لَفَت نظرهُ ذلِك الوِشَاح الأسوَدَ فَـ أمسَك بِهِ وسحَبهُ لِينظُر إليهِ ويدقّق بِتفاصيلِ خِياطتهِ العَجيبةِ حتّى وَقعَت عيناهُ عَلى نَقشِ أُذنا قِطة ،وأسفَله حَرفٌ صغيرٌ مَنقوشٌ بِتلك الخُيوطِ الذّهبيةِ " j " ؟
نَظَر الرّجل نحوَ الطّفل مُتحجرةً تعَابيرهُ ثمّ قَال بَعد صمتٍ " أشعُر بِشعورٍ رَهيبٍ، هَل سَيحدثُ أمرٌ مَا؟"
.
.
لاحظَ أيضاً سِواراً من الأحجَارِ الكَريمة سوداءَ اللّونِ حَولَ مِعصمِ الطّفلِ فَـ حَاول نَزعهُ ولَم يستَطِع فَـ ترَكهُ على حالِه، وحَملَ ذلِك الوشَاح القيّم ليُخبّأه عَن أيدِي الزّوجَةِ الطّمّاعة و فتَح الصّندوقَ الأَسوَد الخَاص بِه ووَضعَه فِيه وأقفَلَه ورَفعهُ فَوقَ الخِزانَة، وتَبعاً للحَرفِ المَنقُوشِ إِختَار الرّجَل للطّفلَ اسمَ "جوون قي"! و خَرَج الرّجلَ مِن تِلك الغرفَةِ يقَابِل بجسَدِهِ شَاشةَ التّلفاز، أمّا عقلَهُ فقَد سبَقهُ نحوَ المُستقبَلِ الغَامِض يفكّر بإحتمَالاتٍ قَد يتعرّض لهَا لاحقاً والعدِيد من الأفكارِ المزعِجةِ ، وعندمَا حلّت السّاعة الوَاحدَة ليلاً و فجأةً.. بدأَت مصَابِيح المِنزِل تنطفِئ وتشتعِل بِشكلٍ مُتكرّر والتّلفَازُ فقَد الإشارة والأرضُ بدأت تضطرِب قليلاً والطّفلُ يبكِي ويستمِرّ في البكَاءَ فِي تِلك الغُرفه، خرَجَت الزّوجة فزِعه تركُض لزَوجها يخِيفها صَوتُ الرّعد، فأمسَك بِها ليُهدئ مِن رَوعِها قائلاً " لا بأسَ لا بَأس، لا بدّ أنها بسببِ العَاصفَة !" ، أردفَت قائِلةً وهِي غاضبة "بَل بسببِ المُصيبَةَ التِي جئتَ بهِ إلى منزِلِنا" ، لَم يُجِبها وذهَب إلى الطّفلِ مُسرِعاً يحاوِل تهدِئتهُ أيضاً ، فَـ ظهر شُعاعٌ غرِيب مِن ذلِك السّوار الأسوَدِ وعلَتِ الدهشَة وجهَه ، فَـ ضمّ الرّجلُ الطّفل إلى صدرِهِ وأمسَكَ بيدِهِ الصغِيرةَ بقوّةٍ ويقبّلها ، فأخذَ يردّد " لا بأسَ يابُنيّ لا تَخَف، أنا بِجانِبِك، أنا بِجانِبِك "
.
.
وبعدَ دقيقَتين بدأَ يهدَأ الطّفلُ و هدَأَت تِلكَ العَاصفَةُ الغاضبةُ المُمطِرة ،وسكَنَت الأصوَات في المَكان ،وإرتَاحتِ الأعصَاب، ونامَ الطّفلُ بَينَ يديه ِبِكُل برَاءة ، فَـ وضعهُ الرّجل علَى فِراشِهِ ثمّ إستقَام وإستَدارَ نحوَ النّافِذة ،فَـ لمَحَ بالصّدفةِ قِطةٌ ناصِعةُ البَيَاضِ،كَبيرةُ الحجمِ، غريبةِ الشّكلِ تبدُوا مِن الأنوَاعِ النّادرة ، وكَانت تنظُر نحوَه بين تلِك الأشجَارِ الكَثيفَة، لم يَستطِع أن يُحدّد ما إِن كَانت قطّةً أم كلبَاً ،فإقتَربَ مِن النّافذة مُحاوِلاً التّركيز ولِكنّها جرَت نَحو الغَابة بسرعَةٍ مُغادِرةً المكَان ، ثُم تناسَاها وأغلَق السّتار..
مَضَت تِلكَ اللّيلةَ وتِلك الأيّام وتِلك الشُهورَ والسّنواتِ الطّويلَة وجُوون قِي يَعيشُ مع تِلك الأسرَة وقَد بَلغَ الثّامِنَة عشرَ مِن عُمُره .. الزّوجة المُتسلّطةَ والإبنَان والأبّ الحَاني وجوون قي أيضاً ، جوون قي لم يَعلَم حتى الآن أنهُ لا يملِكُ دَم تِلك العَائلةِ ولَم يعلَم بِذلِك غيرَ الزّوجةِ" سونغ مي" والأبّ "جونغ سوك" ، كانت الزّوجة قاسِيةً عليه حنُونةً علَى أطفَالِها ومنذُ تِلك الليلة وحتّى يومهُم ذاكَ وهِي تعتَبرهُ اللعنَة التِي أصابتهُم والبَلاءَ والعَائقَ أمامَ مُستقبَلِ العَائلةِ ، والإبنَان لاطَلمَا كانا يحسُدانِ جوون قي لأنّ أباهُم كَان يحبّه أكثر ويميّزه عنهُم ويحنّ عليهِ ولاطَالما تشاجَرا معهُ ، كان جوون قي مُتفوّقاً فِ دراستِهِ ممّا زادَ غَيضَهم، وكان جوون قي هادِئ الطبعِ وبارِد الأعصَاب وغامِضاً وذو بشَرةٍ سمرَاءَ علَى عكسِ إخوتِهِ ، وكَان يُربّي معهُ قطةً سوداءَ قَد رآها في الغَابةِ ..تلازمهُ مُنذُ صِغرهِ وتحاوِلُ حمياتُهُ .. وفي تِلكَ الأثناءَ كَانوا يَتَناولُونَ طعَام الإفطار علَى المَائدة أمامَ المَنزِلِ وكَان جوون قي يأكُل طعَامهُ مُلتزماً الصّمت ، و الأبّ يأكُل بهدوءٍ تامّ أيضاً ، ولكنّهُ رأَى مِن بعيد أنّ تِلك القِطة نفسَها قد عَادت تنظُر مِن بعِيد بعينَاها السّوداوتانِ فَـ تذكّر تِلك الليلَة المُريعة ونظرَ إلى جوون قي ، حَاولَ أن يتجَاهلهَا ولكنّ جوون قي رآها تلكَ اللحظة ونَظَر إلى عينيها مباشرةً ولَم ينطِق.. فَشعرَ بشيء جعَلَ قلبَه ينبِض.. شُعور ممزوجٌ بالرّهبَه .. إحساسٌ لَم يَشعر بهِ مُسبقاً أبداً ، فـ تجاهَل ذلِك حتّى رحلَت
.
.
وذهَبَ الأبنَاء في طرِيقهِم إلى مدرَسَتهِم ، حينَها كَانت تِلك القطّة قد صعَدَت إلى كَهفٍ في أعلَى الجَبلِ فإقتَرَب منهَا قطّ آخر .. كَانا يسمَعَانِ أصواتَ بعضِهمَا مِن خلالِ تبادُلهم النّظراتِ فَحسب، وتبَادلا ذلِك النّوع من الحَديث " ماذا حَصَل يا 'اي يون' ؟ ، " إعذرنِي سوفَ أذهَب إليهِ الآن " ، إقترَبَ و أخرجَ مخالِبهُ غاضباً ولفَظَ مهدّداً " إياك!! " ، أخرجَت مخَالبهَا أيضاً وبنبرةٍ خانقة ممزوجةٌ بالغضبِ " كلّا ، لَم أعد أستطِيع إحتمَال ذلِك أكثَر..إتركنِي أفعَل ما أرِيدُ " ، بادرَها " سوفَ تحلّ عليكِ تِلك اللعنةُ إن ذهبتِ هل نسيتِ؟!! " ، " لا يُهمني ، أريد إبني فقط!! " ، " هل تعتقدينَ أنهُ سيُصدّقكِ أن ذهَبتِ؟ " فـ إلتزمَت الصّمت
وأكمَلَ قائِلاً " وهل ستذهَبين بهيئتِكِ هذهِ؟ أنتِ لم تتقنِي قُدرة التّحولِ بعدَ .. أرجوكِ يا عزيزتِي إنتظري أكثَر قليلاً فَـ الفتَى لم يبلَغ العشرِين مِن العمُر سوفَ يكُون خطيراً عليه! " ثم قال بنبرةٍ حانيةٍ " لا تقلَقِي أليسَ تايكوب بجانبهِ؟ أرجوكِ فكّري بمصلَحةِ إبنُنا ".. أرخَت جسدهَا ذو الفروِ الأبيضِ النّاعم وأدخَلَت مخالبهَا بهدوء وأخفضَت رأسَها وأخذَت تَمُوء بيأسٍ ثمّ رفعَتهُ عالياً تنظرُ نحوَ السّماء .. ومواؤها الحزِينُ يعلو ويتردّد صداهُ خارجَ الكهفِ بـ صوتٍ يهزّ الكَيَان .. وكَان جوون قي مارّاً مِن أسفل الجبَل فَعندمَا سمِع ذلِك المواء الحزِين شعَرَ بأنّ قلبَهُ ينقَبض وشعورٌ رهيبٌ يحرِقُ داخِلهُ فوضَعَ يدهُ على قلبِهِ بعد تردّدٍ وانحنى مُتألّماً فاتِحاً فاه .. فـ نزَلَت دمعَةٌ حارّةٌ علَى خدّهِ لَم يعلَم سببَها وبدأ بالبكاءِ الحارّ .. الذي إختلَطَ صوتهُ بصوتِ موائِها البَاكِي .. وكَان ذلِك مشهداً لأمٍّ فقَدَت إبنُها وتُحرمُ مِن لمسِهِ والنّظر مطوّلاً إليهِ..وإبنٌ لا يزالُ يفتقدُ روحاً أنجبَتهُ لَم يعلَم بوجودِها قربِهِ ،ولَم يشعُر يوماً بعينَيها اللتا كَانتا تراقِبه طُوال تِلك السّنين
.
.
حُرِق قلبُها شوقاً لإبنٍ لَم تنعَم بإحتضَانهِ أو لمسِ يديهِ وشعرهِ أو حتى مِن مُناداتِه لها بِـ أمّي ، وفقَد ذلِك حنَان الأمّ الذِي لم يشعُر به أبداً مع تِلك المرأةِ القاسيةِ التِي لَم يستطِع أن ينادِيها إلّا بالسّيدة رُغم إعتقادهِ بأنها أمّهُ ، كان جوون قي يبكِي ويركُض باحثاً عَن شيءٍ لا يدرِي ما هُو ، كان يركُضُ بين تِلك الأشجَارِ ويبحَث بِجنونٍ ويستمرّ بالبحثِ حتى خارَت قوّاه وسقَط علَى الأرضِ يلتقِط أنفاساً ، ما هِي إلّا لحظاتٌ حتى هدَأَ قلبهُ وهدأَت أعصابَهُ وتوقّفت دمُوعه فإستندَ على أحدِ الأشجارِ ورفع رأسَه عالياً نحوَ الكهفِ أمامهُ ..نظر كثيراً ولَم يستطِع فِهمَ ما يحدُث لهُ ، فـ قرر تجَاهل ما حَدَث علَى أنهُ أمرٌ عاديّ ، فوقَفَ علَى قدمهِ بعدَ أن إستعادَ قوّتهُ وأكمَل طريقَهُ مُتناسياً !


انتهى...

دعمكم وتشجيعكم يحفزني أستمر
وقد ماتعلقون راح أستمر في الرواية
استقبل جميع الآراء والإنتقادات..

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Mar 19, 2016 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

القِط البارد lee joon giحيث تعيش القصص. اكتشف الآن