part (1)

20.1K 705 136
                                    


أتمّت لوحتها وثبتتها على الجدار، استلّت سكيناً شجّت فيه إصبعها وشرعت تخط بدمها أسفل اللوحة (ست الحبايب) حالها كحال عشرات الرسومات السابقة علقتها الآن بنفس الترتيب والتنظيم والدقة .
فتاةٌ لم تبلغ العشرون بعد، اكتست روحها الشيخوخة والألم قبل أوانها، لها جسدٌ نحيلٌ قمحيُّ اللون ذو وجه لم يخفي الشحوب جماله، وعينان واسعتان ذابلتان بلون تراب الأرض, شفتاها مكتنزتان، أما شعرها الأسود الطويل تبقيه حراً دائماً فهو الوحيد القادر على التمرد والإنفلات دونما تقييد ..

وها هي تعود إلى موطنها الصغير الذي فارقته لأكثر من عشرة أعوام، منزلها البسيط القابع بأحد الأحياء الفقيرة والذي يطل على حديقة قَفُرتْ نباتاتها وتعرت معظم أشجارها فتشابكت وشائجها كأشباحٍ تحوم في ليلٍ بهيم، وفي داخل الدار الذي كانت تهابه كمهابة الموت ابتسمت بحنينٍ غريب، حنينٍ تذبذب بخوفٍ أليم، غرفتها وفي ليلة واحدة غدت معرضاً دموياً بكل ماتعنيه الكلمة من معنى، والدليل تلك الصور المرسومة لوجوه نساء مشوهة المعالم والملصقة على الحائط ، رسومات تراكمت بحقيبتها على مدار عشر سنوات والآن حان وقت ظهورها، تراجعت إلى الوراء مبتسمة راضية ، ومسحت السكين بثوبها الأبيض الرقيق ذو القبة المزركشة ، ووضعته جانباً والدماء ما تزال تنزّ من جرحها، شرعت تنظر بعينين هائمتين إلى اللوحة الجديدة، تتأرجح بجسدها وهي ترتل الترنيمة المعتادة بصوت متهدج ضائع الأوصاف مبعثر الأحرف، ترنيمة تؤديها وكأنها تتلو صلاة كل يوم :

-ست الحبايب .... ياا حبيبة
يا أغلى من روحي ودمي .
......

توقفت الكلمات الباقية تأبى الخروج ،إنكبت على الأرض تضحك وتضحك وتقهقه عاليًا ....ندت دمعة يأسٍ من عينيها.....تكومت على نفسها كقطة صغيرة تحتضن ساقيها ويغطيها بحنو بالغ شعرها الحريري الأسود وكأنه يستشعر ما تعانيه، وراحت بسبات على تلك السجادة العتيقة المُغبرّة التي تفترش الأرض .

                            *****
استيقظت بعد ساعةٍ من رقادها بلا روح أو حياة، جمدت حافية القدمين تسرح شعرها وهي تنظر عبر المرآة بعيون ذابلة انهكها الحرمان والألم لسنواتٍ طوال.
فرغت وهبطت الدرج وتوجهت إلى المطبخ ، أخرجت أكياس مشترياتها المكونة من خبز وجبن وشاي، أعدتها وجلست على المائدة محدقة بالفراغ، صبّت الشاي وتأملت البخار المتصاعد من الكأس و شربته بمرارةٍ كالعلقم وبدأت تلوك الخبز بهدوء .
وخرجت بعدها إلى فناء المنزل بثوبها الصيفي رغم برودة الجو وتلبدها بغيوم داكنة وجلست أسفل الشجرة الكبيرة عارية الأغصان، تعلقت نظراتها على الهريرة البيضاء وهي تلهو مع والدتها...

تبسمت نرجس، لكن السماء بكت من فوقها فهطل المطر لتتوارى القطة مع صغيرتها داخل صندوق قديم مهترء الأركان ووقفت نرجس تحت زخات المطر، أمسكت غصناً خشبيا وحفرت طريقاً من البركة التي تكومت فيها المياه إلى الشجرة وراقبت انسياب الماء.
رفعت بصرها إلى الأغصان الجافة والأوراق الصفراء التي تساقط معظمها قائلةً بصوتٍ مختنق : (لن تموتي كما مت أنا وفاضت روحي) قالتها بصوت هامس واقتربت من شجرتها العجوز أكثر، ركعت أمامها وقبلتها، تلمست النقوش التي كانت تحفرها مع والدها على جذعها مذ كانت طفلة ثم ولجت داخل المنزل وصعدت الدرج عائدة إلى غرفتها، إلى عالمها الذي كونته وحفرت تفاصيله بأناملها الدامية، خلعت ثوبها والقته أرضًا وجلست القرفصاء على السرير تضم ساقيها ترتعش بردا ولربما خوفاُ من المستقبل وعادت لتأمل الفراغ تحدث نفسها بصوت مسموع :

بين عالمينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن