النسر و البجعة

2.4K 144 16
                                    

#النسر_و_البجعة
الفصل الأول
هل سمعتم من قبل أن بجعة أحبت نسراً؟ قد يبدو الأمر غير معقول، و لكن متى كان عالم الحكايات معقولاً؟ هلموا معي لأخذكم في قاربي و نحن نبحر في عالم الخيال.. هيا تعالوا!

كانت البجعة في البحيرة ذات يوم، تسبح مختالة بجمالها البهي.. ريش أجنحتها الأبيض الزاهي يلتمع تحت نور الشمس.. حين رنت بعينيها للسماء، رأته. "آه! يالروعته.. كم يبدو قوياً، ذلك النسر!" هكذا حدثت نفسها، و ظلت تنظر إليه و هو يطير في خيالاء.

أما النسر، فكان يعرف مقدار نفسه لحد الغرور. فمن يملك قوته و كبرياءه. الجميع يعدونه سيد السماء. ظل يحلق فارداً جناحيه، باحثاً عن طريدة.. حينما لمحها وهي تسبح في الماء.. شيء ما جذبه إليها، ذلك الدلال الذي كانت تتحرك به، زهوها بجمالها، تلك الهالة الوضاءة من حولها، الرقة الهشة التي تكسو كل حركة تقوم بها.. لا يدري أي من هذه الاسباب، أو ربما كلها كانت سبباً في هذا الإنجذاب العجيب.

طار فوقها مستعرضاً قوته، و حركاته الصعبة في الطيران و التحليق.. و هي تنظر إليه في افتتان دعاه ليقوم بالمزيد.. لم تملك سوى أن نفضت عن أجنحتها قطرات الماء التي ألتمعت كالفضة من حولها، لتحلق هي الأخرى جواره.. كم بدا مظهرهما رائعاً معاً، رغم إختلافهما. ظلا يرتفعان و يدوران معاً في السماء. عاشت لحظات رائعة من الحرية في فضاء الكون الواسع معه. نسيت معه كل شيء سواه..

إلى أن حان وقت رجوعه لعشه في أعالي قمم الجبال حيث الثلوج.. و تركها و حيدة و طار بعيداً، بعد أن وعدها باللقاء في اليوم التالي. ساعتها شعرت بالأسى، و أشتاقت له رغم أنه قد غادر منذ قليل. كرهت هذا الشعور بالرثاء لحالها، فقد أعتادت وحدتها، و كانت راضية بعيشها. كانت البجعة الوحيدة التي تسكن تلك البحيرة الدافئة. أعتادت نظرات الإعجاب من الحيوانات التي تأتي للشرب من البحيرة، و الطيور الأخرى التي تقف على الأغصان حولها.. لكن لم يلفت إنتباهها سواه.

عاد إليها في اليوم التالي، حاملاً عصناً من التوت البري لها كهدية. فرحت بها و رفرفت بجناحيها. طارا معاً في الأجواء، و أخذ يحكي لها عن مغامراته و صيده، و عن الأماكن التي حلق فوقها.. كانت تستمع إليه منصتة لكل ما يقوله لها في شغف. و هو يفتح أفاقاً كثيرة أمام عيون عقلها، أخذاً إياها معه في وصف ما مر به.

و تكرر اللقاء بينهما، و التحليق، و ما ظنته حرية تعيشها معه. زاد تعلقها و حبها له، و إزدادت ثقته بنفسه. كان يطمح أن يروضها، أن يجعلها ملكاً له وحده، رهن إشارته، لتنفذ له ما يهوى. لم يكن يعرف أن شعورها نحوه حقيقي عكس ما أحسه نحوها من إفتتان و إنجذاب فقط.

أرادت منه أن يحكي لها عن مكان بيته، لكنه قال إنه بعيد عن مكان بحيرتها.. و برودته قارسة، كما أن الريح شديدة و لن يقوى جناحيها على الطيران لهناك. إقترحت عليه أن يعيش معها في عشها بالقرب من البحيرة، لكنه رفض متعللاً أنه سيد النسور، و أن عليه أن يعيش بالقرب من مكانهم. ثنت عنقها في حزن، فما كان منه إلا أن لامس عينها الباكية بطرف جناحه.. ثم تركها و طار.

أحست بالغضب و أخبرت نفسها أنها لن تكلمه ثانية، و لن تطير معه، و لن تنتظر عودته.. لكنها عاودت النظر للسماء و في عينيها شوق لموعد قدومه التالي. كانت تكره نفسها بسبب ذلك التعلق، لكن لم يكن بيدها أي حيلة. أصبحت كفراشة في شباك العنكبوت، كلما قاومت مشاعرها، كلما زاد إنجذابها و تعلقها و حبها له، كل هذه المشاعر صارت تلتف حول قلبها كتلك الخيوط الحريرية التي قد يظنها البعض واهية، لكنها تلتصق بالفريسة حتى تشل حركتها مستسلمة بإنتظار نهايتها.

مرت الأيام و الشهور، و شارف فصل الخريف على الإنتهاء معلناً قدوم الشتاء.. كان عليها الهجرة لمكان أكثر دفئاً كعادتها، لكنها ظلت تمني نفسها بقدومه، لم تستطع أن تغادره حتى الربيع، و أن تعيش كل هذه الفترة دون رؤيته.. كان أحياناً لا يزورها في الموعد المحدد للقاء، تغضب حينها و تطير و في نيتها الرحيل و الهجرة، ثم تصل لمنتصف الطريق و تعاود الطيران حتى بحيرتها.. منتظرة في خنوع تكره معه نفسها أكثر و أكثر.. و تكرهه هو أيضاً لأنه السبب في هذا الشعور.. تظل على هذه الحال حتى يلوح في الأفق طائراً فوقها، فتنسى كل شيء إلا شوقها إليه.

أخبرته أن عليه أن يجد حلاً لحالهما.. إما أن يأخذها معه، أو أن يظل معها.. لكنه رفض الحلين و أخبرها أن عليها. إلتزام مكانها و إنتظار زيارته لها. غضبت ساعتها و أحتدت عليه مرفرفةً بجناحيها أعتراضاً و حلقت بعيداً تاركة إياه عن شط البحيرة، فما كان منه إلا أن تجاهلها و طار نحو الجبال.. شعرت بالأسى لحالها و بكت، لأنه لم يحاول التمسك بها و مصالحتها. في لحظة غضب.. قررت أن تتبعه. حلقت بأقصى سرعتها وراءه، لكنها لم تكن نداً لقوته في الطيران. صار بعيداً جداً عنها و الرياح الشديدة جعلت من الصعب عليها أن تلحقه بسهولة. حين أقتربت من الجبال التي يسكن أعلاها، أحست ببرودة شديدة، و قد أوهنها الطيران خلفه..

و لم تكن تلك مشكلتها الوحيدة؟ ترى ما الذي سيحدث لتلك البحعة عند عش سيد النسور؟ ستعرفون أحبائي في الفصل القادم.. فقد حان موعد ذهاب راوية الحكايات للنوم. تصبحون على كل خير.


النسر و البجعة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن