الفصل الاول : ذكري ثورة يوليو ٥٢

29 0 1
                                    

اليوم الثالث بعد العشرين من شهر يوليو للعام الثانى والعشرين بعد الألفين. قابع فى شقتى بإحدى عمارات البناء الملكى المطلة على الميناء الشرقى القديم بالأسكندرية تلك المبانى التى أصبحت شاهدة على أحداث أكثر من قرن ونصف من الزمان والتى لا تلقى أى اهتمام أو رؤية من مسؤلى الأثار بإعتبارها بنايات اثرية يجب ترميمها والأعتناء بها. هذا هو شئن البيروقراطيين دائما فى إنتظار حدوث الكوارث وفقدان الارواح أولا ثم يتباهون ويتشدقون بحلو الكلام عن الإنجازات التى ستحدث لمحاسبة المقصريين والخ الخ الخ ولا يحدث أى شىء فى النهاية.

ميناء الأسكندرية الشرقى هو أول مرفأ بحرى فى مصر منذ عهد الأسكندر الأكبر وقد أصبح الأن مرفأ للصيد يحتضن المراكب الصغيرة لأن مصر لم تعرف السفن الكبرى للصيد كما أنها لم تتعرف بعد على حياة اللانشات الخاصة وانى لأجزم أن هذا الموقع الساحر إنما ينقصه ميناء خيالى لهذه المراكب الجميلة التى تنغمر فى المياه ولا تعرف أيهما يحمل الأخر الا انك تعرف جيدا انهم يتعانقان المشهد البديع عبر الزرقة الصافية للسماء والمنعكسة على امواج البحر الهادئة. وكعادتها الاسكندرية فى هذا التوقيت لا تزال تتحسس شوارعها وشواطئها زوار الصيف.

وكعادتى فى مثل هذا اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو كل عام فاننى اجلس نهارا أمام التلفاز لأقلب فى القنوات بحثا عن فيلم رد قلبى الا اننى استسلمت هذا العام بعد البحث العميق فى جميع القنوات الفضائية والذى ادى فى النهاية الى الذهاب والبحث على الانترنت. حيث لم أجد بالتلفاز سوى الاوتار القليلة البالية من التهانى والموسيقى الوطنية التى كانت أقرب الى المارشات الجنائزية وقد تناسى الفيلم الذى عبر حق التعبير عن ثورة الثالث والعشريين من يوليو.

وشرعت أفكر فى كل القثورات التى عبرت بها مصر والتى أفادت البلد وعبرت عن جموع شعبه وبعضها الذى أضر بها لانها تحولت من تعبير شعبى عام الى مطالب فئوية انهكت روح الثورة وغلبت روح المصالح مما ادى الى افادت كتلة معينة على حساب جموع الشعب. لم أعش حلم عبد الناصر الديكتاتور الذى صنع انقلاب سمى بالثورة ولكنى عشقته لما رأيت من إنجازات وإعلاء للمصلحة المصرية فوق اى اعتبار والالتفاف للبناء. رغم الحروب الداخلية والخارجية إلا ان الرجل كان مصصما على الانتصار ومواصلة المشوار. لقد أخطء فى اشياء ولكن هذه الأخطاء التى توارت فى إنجازات لو كان من خلف سار على النهج لكان لمصر شئن أخر بين الدول. إلا أن "الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".... وكان الشعب الفقير المغلوب على أمره لاول مرة بعد عهد النهضة أزمان السيد محمد على يتنفس نسيم البناء والتعمير. عرفت الثورة من أغانيها الوطنية وملحماتها الشعبية. "قلنا هنبنى وأدينا بنينا السد العالى" الى " عندى جواب اليك". رئيت الثورة فى جيل كامل من أباء مصر الذين نهضت بقواهم الثورة وتخللت فيهم وانبتت منهم علماء ومهندسين وأدباء ومفكرين انعشوا الحياة المصرية وظلت أعمالهم خالدة لنا. هؤلاء لربما لم يذوقوا التعليم لفقرهم ولولا ان كانت ثورة يوليولما ادركناهم ولما عرفنا بهم. عشقت الاسطورة فى جمال عبد الناصر ولكنى لم أعشق المستبد المستنير. عشقت البطل الذى ادرك اهمية التنحى والتحول من صفوف القيادة الى صفوف الجماهير. عشقت البطل الذى انفرد بحربه ضد القوى الاستعمارية وأمم قناة السويس. عشقت البطل الذى حلم لمصر رغم عن هفوات الجواد الجامح الا انه كان يسير صوب الريح. الريح التى اجهضته وارقدته قتيلا على فراش الصراع والمرض. مات ناصر ومات حلم العرب واجهدتنا الحروب والسرقات وعشت انا اربعين عاما ولا تزال مصر تتشوق نسمات الابطال المكافحين الذين يعشقون ترابها لينهضوا بها وتنهض بهم.

وبينما أنا فى غضم أحداثى هذه إذ بصديقتى الوحيدة د/ إيناس المكاوى أستاذ الاقتصاد جامعة الأسكندرية تفتح باب شقتى التى تحمل معها دائما نسخة من مفاتيحه لأنها غالبا ما تلجىء إلى شقتى فكنت دائما أعطيها المفتاح حتى وان أضاعته عدت مرات. فأنا لم أعد أرتبط بالعالم الخارجى إلا عن طريق إناس. وبدخولها بالطبع لم أهتم بالبحث عن فيلمى المحبب فإذ بها تلتقى فى أحضانى وجالسة بين يدى من شدة الشوق انستنى قبلتها الحياة!

كان سؤالها عن حالى متأخراً بعد ان أنهكتنى بأحضانها وكأنها قطة برية تتقلب وأزيز صوتها اليافع الساحر قـَـلبَ أرجاء المكان ؛ فتية سمراء من طين النيل فى الثلاثينيات من عمرهـا, يافعة الطول كحيلة العينين, متوسطة الحجم لها جسد عارضات الأزياء الفرنسيات وبعض من تجسيدات التكوينة المصرية المتـمـثلة فى إمتلاء الصدر والخصر قليلاً. لم تنتظر من شدة الشوق ان تذهب كعادتها لتزيل ملابسها الممتلئة بأنين الشوارع وأتربة الأزقة فألقت بحمولها على صدرى وأوكلت لى مهمتها بنزع هموم الحياة عن جسدها اليافع الاسمر وبقبلتها التى انبعثت منها الاشواق تلمستُ طريقى الى قلبها. وفى احتواء ذراعيها لى قابلة نشوتها وحدتى وتفعمت مشاعرها بوجدانى؛ وإذا بى أحتضنها واتجول بأنوثتها فى نهارداكن الملامح تشرق شمسه بين السحاب المطل على المرفأ وتتلأ اشعتهاعلى صفحات زرقة البحر الذى تعشقه الاسكندرية. وعشت لحظات الحب بجسدها وتذكرت أفكارى مزامير دنقل:

أعـــــــــــــــــشــــق إســــــــــــكندريـــــــــــــــة

وإســــكندريــــة تـــعـــشـــق رائـــــــحة البــــــــــــحر

والبـــــــــــحر يــعــــشـــــق فــاتـــــــــنـةُ

فـــــــى الضـــــــــــفاف البــــــــــعـــــيد

القهوجيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن