بعيداً جداً في أعماقِ إحدى الغابات الموحشة.. جلست هناك وحيدةً... فتاةٌ ذو شعرٍ أشقرٍ ذهبي و بشرةٍ ناصعة البياض.. لها عينان لوّنتا بلونٍ أزرقٍ صافٍ كلون السماء الواسعة..ترتدي ثوباً مهترئً لُطِّخَ ببعض التراب ..
وقفت بتأنٍّ و فردت جناحيها الكبيرين ذو اللّون الأبيض الناصع كلون بشرتها الحسناء.. لم تكن بشراً و لا طائراً .. لربما ملاكٌ سقطَ من السماء..
رفرفت بجانحيها وصولاً للأفق محلّقةً تحتَ أشعة الشمس الذهبية تلاعبُ السحبَ بيديها هنيهةً و هنيهة أخرى تحلّق برفقة سراب الطيور المهاجرة وصولاً لبحيرةٍ واسعة عكست لون السماء الزرقاء..
اقتربت منها حتى كادت تلامس سطحها و إذ ببعض الأسماك تتقافز بفرحٍ فتخرج من البيحرة و ثمَّ تعود إليها لتتناثر بعض القطرات المنعشة على وجنتي تلك الفتاة التي أخذت تضحك بخفة..
عادت إلى الأفق و حلقت بقوّة كانت تشعر بسعادةٍ غامرة تملئ قلبها الصغير ..نسمات الهواء العليل راح يلاطف وجهها بهدوء .. كانت الزهور تتراقص لها و العصافير تغرد من أجلها بدا و كأنَّ كل ما في الغابة سعيدٌ مثلها.. فإنّ كانت هي ملاكٌ فهذه هي الجنة..
لكنَّها كانت مخطئة..
طلقتان اخترقتا فجأةً إحدى جناحيها لتمحيا كل تلك السعادة بثوانٍ ..تلاشى الفرح من قلبها ليحلَّ محلَّهُ ألمٌ لا متناهٍ ..استادرت يميناً و يساراً علّها تجد الفاعل و لكن ما من أحد.. أَتمَّ الغدرُ بها ؟!
راحت تسقط من السماء و جناحها ينزف بقوة.. سقطت عائدةً ً لتلك الغابة الموحشة مرةً أخرى و إذ ببعض الأغصان تحتضن جسدها .. أكانت تحاول إنقاذها ؟!
كلا.. بل راحت تغرس أغصانها التي كانت كالأشواك السامّة بجناحها الجريح ..تغرسها تارةً و تضرب بها تارةً أخرى .. تهاوت تلك الأغصان الثقيلة على جناحها دفعةً واحدة حتٌى حطمته.. سقطت مكسورةَ الجناحِ من غصنٍ إلى غصنٍ ثمَّ ارتطمت بالأرض..
لكنّها لم تستسلم بعد.. فهي تملك جناحاً آخر.. راحت تهرولُ مسرعةً بألم محاولةً الخروج من هذه الغابة المتوحشة ولكن بعضُ النباتات الزاحفة قد اعترضت طريقها و راحت تلتفُ حول جناحها الآخر محاولةً نزعه..
جثت الفتاة على ركبتيها من شدة الألم و أخذت تقاوم تلك النباتات بكلّ ما لديها من قوة و لكن يداها الضعيفتان لم تسعفاها.. استمرت تلك النباتات بشدّها للجناح و استمرت تلك الفتاة بالمقاومة.. و إذ بتلك النباتات تنقضُ فجأةً على جسد الفتاة الضعيف مثبتتةً إيّاه أرضاً ..ساحبةً جناح الفتاة بكلِّ عنفٍ و قسوّة حتى انتزعته عن ظهرها بلا أية رحمة..
تدفقت الدماء من جسدها بينما أخذت تلك النباتات تزحف بعيداً ساحبةً معها ذاك الجناح ..
رفعت رأسها إلى السماء و صاحت بصرخةٍ اهتزت لها الأرض و السماء و ما بينهما.. كانت صرخةُ ألم.. صرخة عجزٍ .. و ضعف.. أفقدتها صوتها إلى الأبد.
انهمرت دمعة واحدة من عينها اليسرى حرقت وجنتها بهدوء..
اخفضت رأسها بألم.. سكن جسدها بلا حراك و كأنّه جثةٌ هامدة.. لاعبت نسمة رياحٍ خصل شعرها الملوثة بالدماء و همست لها.. : " قفي.. "
نظرت إلى السماء حيث سراب طيورٍ يحلق بين السحب.. لمعت عيناها و كأنّها رأت بريق أمل.. إنّ السماء تدعوها لتطير..
نهضت بصعوبة .. مشت على الأرض الملطخة ببعض دمائها كان ظهرها منحنٍ من ثقلٍ جناحها المحطم..بينما خصلات شعرها تغطي أذنيها و بعض وجهها..
مشت ببطئ ٍنحو المنحدر ..فتهامست الأشجار..: " هي لن تحلق.. فجناحها مكسورٌ .. و الآخر قد نزع منها "
هم كسروا جناحها و ليس عزيمتها.. هم نزعوا جناحها و ليس إصرارها..
استمرت بالمشي ملوّثةً الطريق خلفها بالدماء إلى أن وصلت لحافة المنحدر حيث تليه هاويةٌ مظلمة .. تهامست النباتات..: " ما الذي تحاول فعله.. هي لن تطير بهذا الجناح المحطم..!! " هم لا يعلمون بأنّها لا تحتاج لجناحين لكي تطير.. فحتى القلب المحطم يستمر بنبضه..
رمت بنفسها إلى تلك الهاوية المظلمة.. سقط جسدها نحوَّ الأرضِ كسمكةٍ تسحبها صنارةُ صيدٍ بقوّة...
ارتطم جسدها بالأرض فتحطّمت أطرافه مضرّجاً بالدماء .
.
.
.
.
.
و لكن تلك ليست النهاية.. بل البداية فحسب.أخذ جسدها يتحطّم گجرة فخارٍ فارغة.. ظهر من بين
حطامه تلك الفتاة بجسدٍ جديد أكثرُ إشراقاً ..أكثرُ جمالاً ..
كانت ترتدي ثوباً أبيضاً مرصعٌ بالذهب و الألماس و يزيّنُ رأسها إكليلٌ من الزهور صُنعَت من الياقوت و الزمرد..
نهضت من بين الحطام كفراشةٍ تغادرُ شرنقتها.. نسمةُ رياحٍ هبَّت و حملت معها آثارِ جسدها القديم و حطامه راميةً إيّاه في كلّ الأرجاء.. لكنّ الفتاة لم تنظر للخلف حتى.. بل سارت للأمام منتصبة القامة مرفوعة الرأس..
وقفت على رؤوسِ أصابعها و بدفعةٍ خفيفة أضحها جسدها بوسط السماء محلِّقةً من جديد ..حلّقت و حلّقت مروراً بتلك النباتات الزاحفة و تلك الأغصان الشائكة.. طارت للأفق لتحتضن السماء بذراعيها و نسماتُ الرياح تتلاعب بخصل شعرها الذهبيّة..
طارت بعيداً عن تلك الغابة الموحشة...طارت حرةً طليقة.. بلا قيودٍ و بلا أجنحة.
![](https://img.wattpad.com/cover/84861641-288-k450385.jpg)
أنت تقرأ
بِــلا أجنحة
Short Storyلَربما تنقذُ قشةٌ غريقٌ إن لم يفقد الأمل.. ~' فـ ليسَ كل سقوطٍ نهاية.. و ليس كلَّ غريقٍ ميتٍ لا محالة.. تشبث بالأمل فـ يتشبث بك.. لا تجعل سفنك تنتظر الرياح لتبحر.. بل أصنع مجدافاً و جعلها تبحر به.. الأمل حيّ طالما مازلت أنتَ حيّ .. فلا تجثو ميت...