الفصل الأول

9.9K 657 514
                                    

كان ساكنًا، خاوي الصوت، لا شيء يتحرك به سوى عيناه البنية، يرمش بين اللحظة والأخرى بهدوء ، وينقل ببصره في شقوق السماء متأملًا ..

راميًا نفسه على قطعة أرض مستوية، كساها الخضار ورائحة التربة الرطبة، عاموده الفقري التصق بالعشب المشبع بالاخضرار، ومن اللا مكان تأتي نسمات رياح باردة تداعب وجنتاه، فهي ابنة اللا مكان؛ شقيقة للرياح والعواصف.

دوامات من الأفكار تعصف بتضاريس قلبه، تتمايل مع كل ذرة من الحزن بسرعة تكاد تخترق ضلوعه، همه يثقل ويثقل وما كان له يد العون من موجات أحزانه سوى مصحف يتلوه .. ومراقبة السماء.

- السلام عليكم.

شبهه في دماغه على أنه خرج من تحت الارض ، فلم تتسل الى اذناه صوت اصطدام قدماه بالعشب ، أو حتى صوت نفسه الاعتيادي.

- وعليكم السلام.

أدرك بأنه مسلم مثله ، في دولة كانت جزءًا من الحضارة الغربية، معظم سكانها كبقية السكان تقريبًا تشكلت في قلوبهم العنصرية كالدم، فعبارات تطاير هنا وهناك تسكن في حروفها كمية من التمييز بين البشر، فمن يعيبك على شكلك ، لونك ، اصلك ، دينك.

ولم تقتصر العنصرية قط في دول الغرب ، فهي كالغبار .. ينتقل من مكان الى مكان ، غير ثقيلة لكنها تكاد تعميك!

تدارك نفسه قليلا .. سأله فضوله: كيف له أن يعرف أنك مسلم؟ من هو؟

لكن ذاك الشاب وقف صوته حاجزًا بين اسئلته المتواصلة

- ما بك تبدو حائرًا؟
- عفوًا، ولكنني لا اذكر انني اعرفك!

ألقاها بنبرة صوت تحمل الفضول على متنها

- أراك دائمًا هنا، تتلو القرآن مع الشيخ الذي يردد الآيات في مقطع فيديو لتتقن اللفظ.

- حقًا؟! لم أراك قط!

أشعة القمر تضرب في بشرته السوداء وتعكس بعيناه لمعة الحياة، أما من اتاه على غفلة كان عكسه تقريبا، بشرته بيضاء بعينين كعينيه .. ضيقة قليلًا بشكل لوزي ، تقتبس لونها من الشوكلاته بنية اللون.

تدارك وضعه قليلًا، وقرر بعد أخذ نفس عميق أن يتعرف على أخاه في الإسلام، لم يعرف بماذا يبدأ، كانت الانطوائية تسود شخصيته.

- أدعى بمحمد، شاب جامعي في العمر الواحد والعشرون.

قالها بابتسامة تبرز وجنتاه، كان متربعًا فوق العشب بعد أن رفع ظهره عن وضعية الاستلقاء عنه.

ولكن الآخر على ما يبدو قد أعجبته وضعيته السابقة، فلقد قام بالاستلقاء وتحريك فكه آية لبداية حديثه

- أدعى بزين ، أسمي عربي أيضًا! أنني أصغرك بعام فقط.

أنهى حديثه بإغلاق عيناه بهدوء ، ورسم ابتسامة هادئة بين وجنتاه، ليأتي محمد بجواره، واضعًا يداه تحت رأسه ليأخذ وضعية الاستلقاء هو ايضًا.

- افتح عيناك، وراقب النجوم.

أمال زين برأسه إلى جهته، ينظر له بمقلتين مسترخية، راقبه لثواني ليومئ برأسه يدل بها على استجابة أوامره.

- ماذا تحب بالنجوم؟

نطقها زين بصوت مبحوح، عيناه تخبأ في جوفها شيئًا مبهمًا، ولكن ملامحه نجحت في التستير عن مقلتاه بما تخبأه من غموض داخلها؛ لتسترها تحت قناع من الهدوء والاسترخاء.

رفع محمد بسبابته الممتلئة قليلا يشير بها الى السماء قائلا:

-السماء سوداء والنجوم بيضاء ، رغم اختلافهما عن بعضهما إلا أن النجوم لم تتزحزح عن السماء قط، لم تحتج بكونها سوداء وهي بيضاء!

- وجهة نظر جميلة، كأن سماء الليل رمز لمنع العنصرية يا صاح!

- أجل، سبحان الخالق.

- تلاحظ أن دب الباندا أيضًا جمع الأبيض والأسود معًا!

-فعلًا، العنصرية من حماقات البشر لا أكثر.

ابتسم زين ابتسامة واسعة تظهر أسنانه البيضاء المصفوفة على لثته، ليردف سؤالًا جعل الاستغراب يدور في عقل محمد.

- ماذا لو كانت نجوم السماء في الأرض؟

ما إن أنهى سؤاله حتى عاد ذلك الهدوء الذي كان مقيمًا في الأجواء، تمل منه الأشجار لتعزف لحنًا بحفيف أوراقها، وزين يراقب النجوم بهدوء بعد أن أحدث فوضى في دماغ محمد.

- إليك اجابتي على ذاك السؤال المبهم.

- الأذان صاغية لك.

- النجوم في كل مكان، على السماء والأرض ، في السماء هي رمز لمنع العنصرية، ولإنارة ظلمتها الحالكة، وفي الأرض تتجسد على هيئة بشر، مثلك تمامًا.

-ماذا؟ مثلي؟!

سأله وعلامات التعجب تتمثل في عقده لحاجباه، لم يتوقع إجابة منه كهذه.

- تأتي وتنير المكان بنورك رغم عدم فعلك شيء سوى وجودك هنا.

أجابه محمد وابتسامة صادقة نثرت ببذورها على وجنتاه لتنمو  وتزين محياه.

النجوم وسواد الليل .. هي أكبر من أستخف بالعنصرية!

ولو سقطت النجوم من السماء لغسلنا قلوبنا من الكراهية والتمييز!

النجم شيء ينير من حوله
رسم آيةً لنتكامل باختلافنا
فلتسقط أنت من السماء
وكن مثله..
كنت أنت النجم في الأرض!

"ماذا لو كانت نجوم السماء في الأرض؟"
لكانت الكراهية تتلاشى ببطء..

أحاديث النجومحيث تعيش القصص. اكتشف الآن