لطالمًا كان سوق المدينة يضج بالحياة ، حيث تجد الأطفال يركضون و يلعبون هنا و هناك بينما تتعالى أصوات ضحكاتهم البريئة في كل مكان ، و تنتشر رائحة الكعك الذي يصنعه الخباز في أنحاء المدينة ، ليداعب بها أنوف العاملين و يوقظ وحش الجوع النائم بداخلهم .تجد التجار يصرخون هنا و هناك ليجذبوا الزبائن نحو سلعهم ، بينما تتسوق ربات البيوت لينتقين بعناية أفضل المكونات و أكثرها جودة ، و بعيداً كل البعد عن هذا الصخب كان يقبع متجر صغير ينحاز لأن يتفرد و ينعزل بنفسه عن سائر محلات المدينة ، تماماً كمالكه العجوز السيد باركر .
كان السيد باركر رجلاً في أواخر الستينات من عمره ، مال ظهره و إنحنى مما عاناه في حياته حتى يُنشأ متجره هذا و يتقن صناعة القبعات ، و رغم تقدم العمر به و بصره الذي أخذ ينحسر و يضعف بالتدريج إلا إنه كان أفضل صانع للقبعات في هذه المدينة ، وقد كان مقربًا ومحببًا إلى قلوب أهل هذه المدينة ، لكنه و في الفترة الأخيرة صار سارح الفكر على الدوام ، مشغول البال ، منعزلاً بنفسه أكثر من أي وقت مضى .
يحجز نفسه في متجره الصغير بين أكوام من الأقمشة و الأوراق المبعثرة في كل مكان ، بينما يصلح تلك القبعة التي أحضرها له أحد زبائنه ، لكنه سرعان ما أفلتها من يده عاجزًا عن إكمال عمله ، وأطلق تنهيدة تنم عن الضيق الذي يستوطن روحه ، قبل أن يضع رأسه بين يديه ليبحر مجدداً في عالمه الخاص.
كان كل ما يشغل ذهنه هو ذاك المنام الذي أخذ يتكرر عليه في الليالي السابقة و كأنه يلح عليه بأن يتذكر ما نسيه عن غير قصد ، لذا فقد كان السيد باركر مشتاقًا لأن ينعم بليلة مريحة و نوم هانئ دون ذلك الحلم المزعج و الذي أخذ ينغص عليه حياته و يحرمه طعم النوم و لذته في الأونة الأخيرة ، قد يبدو ذلك أمراً سخيفاً بالنسبة للبعض و لكنه و بالنسبة لسيد باركر فقد كان أمراً مصيرياً يفسد عليه هدوء حياته.
أيقظه من تفكيره العميق صوت جرس باب المحل ، و الذي أخذ ينتشر في أنحاء المكان معلنًا عن قدوم زبون جديد ، لذا وقف السيد باركر مستعدًا لإستقباله ، و سرعان ما شقت إبتسامة واسعة طريقها عبر وجه السيد باركر المليئ بالتجاعيد و ذلك فور تعرفه على زائره غير المتوقع ، و قد فتح يديه لتلقي تلك الفتاة بنفسها بين ذراعيه بقوة ، و قد ضمها هو إلى صدره بكل عطف و حنان بينما أخذ يداعب خصلات شعرها و يهمس لها متسائلاً :ما الذي جاء بك إلى هنا ، هيلدا ؟
إبتعدت هيلدا عنه بينما لا تزال محافظة على إبتسامتها و قد أجابته بكل حيوية : ماذا ؟ هل من السيء أن أشتاق إلى جدي و أتي إلى زيارته بشكل مفاجئ ؟
أخذ باركر العجوز يتأمل وجه حفيدته و كيف أنها كبرت لتغدو صبية حسناء جميلة ، إلا إنها ما زالت كما يعهدها لا تجيد الكذب و الخداع ، ثم تمتم بينما يصطحبها ليجلس برفقتها في أحد زوايا المحل : أجل فليس من عادتك أن تقطعي كل تلك المسافة لتزوري جدك .
أنت تقرأ
إستحال دجلًا
Fantasyتلك الحروف المحترقة.. كانت بوابة إلى ما لم تتوقع أن تصل له يوما ! جعلتها تعاود التفكير مجدداً برغبتها إلى الولوج لعالم الخيال ، و الذي بات واقعاً لا مفر لها منه إلا المواجهه !