حكمة حمار

54 0 0
                                    

الشارع مستلقٍ في فِراش المكان , وحيداً كأرملة في سرير الزوجية , لا يحجبه عن ذاته الحقيقية سوى طبقة الزفت الخشنة التي سَجَنت حريّته الترابية في زنزانة البنية التحتية ليدوسه الناس ولايوسخون أحذيتهم .. الرصيف مبلل بدموع الخريف الباردة , يتألَّم من دعسات المارَّة النّزِقة , ويتذكر أن حلمه حين كان صغيراً أن يصير جدار في متحف للفن أو على الأقل منصة في قاعة مؤتمرات , فيصطدم بحتميته الوظيفية ويتابع تألمه بهدوء المستسلم ... حاوية القمامة الخضراء في الأصل شُحِنَتْ جلُّ عائلتها الحديدية لتترقى في الخارج بعد أعوام لتحف فنية في منزل ارستقراطي , و الحاوية متهالكة بعبأها الوجودي يعتريها صدأ القذارة أمام رصيف القدر , تغض بأوراق الأشجار التي تنكرت لفضائل الصيف ففقدت المعنى الحسي للحفيف , وتهاوت لتتجمَّع كالشعوب في عدميِّة الحاوية . وأنا أقفُ على حوافري كالتِّمثال انتظر أمر التقدم من جلادي البشري الذي يربطني بعربة خشبية عجوز منذ ثلاثين سنة , وإلى الآن لم يتسنى لي أن أشاهد ماذا يبيع على متنها. أقف هنا بكامل حماريّتي أتأمل تعبي المتمدّد أمامي على طول الطريق وعيناي محددتا الرؤية بقماشتين سميكتين كي لا أتلفّتْ يمنة ويسرة وأتأمل الوجود بحرية أكبر, هي فقط هذه اللحظات التي تقف فيها العربة للبيع , أسترق النظر براحة محدودة لأتأمل ما حولي , أرى بني البشر يهرولون كل يوم بنفس طريقتي في العيش ماينقصهم عني هي العربة فقط , فالخوف من الفقر والجوع يجلدهم بسوط العدم , وحاجات النفس الدنيا التي يشاركوننا بها هي بمثابة تلك القماشة السميكة المتهدلة فوق اعيننا , ولكنهم على عكسنا تماماً يلتفتون كثيراً للوراء بدوافع نوسطالجية بحتة لا فائدة منها سوى التخدير الوجودي فلا يربحون الماضي ولا المستقبل , ويمزِّقون الحاضر بالقلق . ترنو لقربي فتاةٌ صغيرة مازالت طاهرة الروح والجسد , تأمر والدها أن يدعها تملِّس جبهتي المتعبة فينهرها ويقمع أمرها خوفا من عدوانيتي المحتملة , فتدمعُ عيناها وترمُقني بنظرةِ حبٍّ صغيرة وكأنها تلمَّست فيَّ مالم تعتاد عليه , لقد أثرتُ حِسَّها باختلافي الوجودي عن الآخرين المحيطين فأرادت أن تتحسس هذا الاختلاف ونهرها والدها لأنه ككل هذا المجتمع يخاف الاختلاف لدرجة جعلتهُ يخشى ردَّة فعلِ حمار أكلته الشّيخوخة , مع أنّي لم أعرف معنى القتل يوماً ولا أحِسُّ بنشوة إذا أريق أمامي دمُ حمار أو بشري فلماذا يتهمونني عنوة بالعدوانية؟ وهم من أسس هذا المفهوم , ربَّما لأنَّهم لم يفهموا أنفُسهم بعد فكيف بهم يفهمون نفس حمار. تمر قربي سيارة كبيرة يبدو أنها مسرعة لشدة ضجيج صوتها , ولكن السيارات الأخرى تقف حائلاً أمامها تتبختر مرغَمةً في جو من حتميَّة الازدحام . تتصاعد من هذه السيارة تراتيل حزينة يمتقع لون من يسمعها من المارّة وعلى ظهرها صندوق خشبي بطول بشري , يتثاءب ولا يبدي أية انفعال أو تعاطف مات أحدهم إذاً !! مات كأي ورقة شجر أنهت الريح عملها . تسجى كدمية في صندوقه الخشبي كما يفعل كل يوم حين يخلد إلى نومه الفرق البسيط هو في إرادة النوم لا في صورته وما يجعل للموت معنى هو ضجيج المحيطين أما الميت فيلزم الصمت الأبدي ولا تعنيه ترهات الأحياء . لماذا يبكون على الميت ولا يبكون على النائم أو الجاهل وهم سواء من حيث الفعاليّة الإنسانيّة؟ هل لأن الميت يأخذ معه مقطع من شريط حياتهم المتكرر أم لأن من يموت لا تموت معه أشيائه فتبقى توسوس في أحزانهم ولاتفنى إلى أن يقتلها الزمن بسيف التكرار . أنا لم أفهم بعد معنى الموت كما لم أفهم معنى الحياة وهم كذلك , حاولت أن أبكي يوماً حين ماتت أمي تحت سطوة سوط الجلَّاد الغاضب من بطء حركتها ولكني لم أملكَ نفسي ولا أستطيع البكاء إلا كردّةِ فعلٍ لألمي الحسي الذي يسببه سوط الجلّاد أمّا وعيي بالألم العاطفي فخارجٌ عن إرادتي ودموعي لا معنى لها إذ غابت حريّة الرغبة بالبكاء.. الوقت يمضي مسرعاً رغم أنّي لا أشعر بمعنى أنَّ الوقتَ يمضي مسرعاً وجلَّادي البشري مازال يتودّد للمارّة بكذبْ وتملّق ويصرخ بصوته الأجش بعبارات تسويقيّة أكل التكرار حروفها فغدت كخطاب مرشح انتخابي لامندوحة وراء تفسيرها , وذلك لكي يربح سويعات قليلة يحيا بها استئنافا لعمله في الغد فكم يشبه عمله عملي.. أنظرُ يمنة جهة الرَّصيف المبلَّل فأجد رجلاً رثَّ الثياب , متهدّل الكتفين , يكاد لحم وجهه يسقط من شدة الكآبة لا تغريه أيِّة صورة مما حوله وكأنَّه ميتُ يسير على قدميه , وجلُّ الناس يتحاشون النَّظر في عينيه , يقف أمامي كمبعوث القدر ويحدّق في وجهي ببرودة وإعياء ودمعة كبيرة تتجمع على قوسي عينيه , ودون أن ينبُسْ ببنتِ شفة يتقدَّم مسرعاً نحوي ويسوِّر عُنُقي بكلتا يديه ثم يجهشُ بالبكاء , لم أعلم في تلك اللحظة ماذا أفعل , تصاعد الدمُ نحو حوافري وترنحت بي غريزتي يمنةً ويسرة وحاولت جاهداً أن أسيطر على نفسي والرجل مازال متشبثاً بي يأنُّ بحرقة شديدة كمفاصل عربتي الخشبية , وروحه تتمتم بكلمات اعتباطية لا تؤسس أية معنى . لقد شعرت في تلك اللحظة أن الرجل أثَّر في جلدي ونمت قشعريرة في جسدي حتى كدتُ أخِرُ على الأرض فنهرهُ جلّادي بصوته العصبي وهَّدده بفرقعة السوط كما يفعل بي وقال له : (ابتعد يا حمار يا ابن الحمار) فتبسَّم بغرابة بعد أن مسح عينيه بكمِّ معطفه المهترء , ومضى في طريق العدم تهرهرر الخيبة من جسده , وفي هذه اللحظة عَلا صوت السوطْ مفرقعاً على ظهري بعد أن شد جلادي الرسن حتى كاد يمزق شدقيَّ , وأمرني أن أتقدم نحو المزيدَ من التًّعب أدوس الزمن بحوافري وأرنو أنا وصديقتي العربة وجلَّادي القلق نحو غٍد آخر يشبهُ الأمس ولا شيء فيه يتقدم للأمام سوى الاقتراب من الموت.............. .. ghassan 20/8/2015

حكمة حمارWhere stories live. Discover now