لقد كان هواء الربيع قاسياً..
وهو يلفح بأغصانِ الأشجار ذهاباً وأياباً بِلا هوادة، تستمِر الأزهار الصغيرة في التفتح طوال الشهرين المُنصرمين، بألوانٍ زاهية براقة.سارت أنامِلها بشردٍ فوق أطرافِ الكتب المُصطفة بين الأرفف بإنتظامٍ دقيق، بدت غير واعية لمَ تفعله..حتى تنبهت بصوت النحنحة الذي صُدِر من الجانب، جفلت بخفةٍ مُتفقدة تلك الفتاة التي تتسائل عن موضع كُتب الفلك، لتُرشدها بإبتسامة تكلفتها، سريعاً ما سقطت.
بأصابع ضائعة بين بحرِ الكتب، سحبت كتيباً صغيراً..وعادت أدراجها إلى حيث تجلِس عادةً، كُرسي مشرفة المكتبة، وفتحت الكتيب أمام ناظريها، ولكنها لم تفقه لحرفٍ لمَ كُتب، فقد عاد ذهنها يطفو إلى جهةٍ أخرى، ظنّت بإنها قد قمعتها منذ فترة.
ولكِن يبدو بإنها قد خسرت السيطرة على أفكارِها، كما خسِرت أشياءً عدة، الشيء الوحيد الذي إستطاعت الحصول عليه بتلك المدة..هى وحدّتها، ولقد إستحقتهّا بجدارة.
طرقات أصابعٍ خافتة كانت كفيلة بقطع حبال شرودها، لتنتفِض بتفاجئً وهى ترتفع برأسها نحو ذلك الشخص الذي وقف أمام المكـتب، مُحملقاً بكتابٍ ما بيده، فلم يلحظ صدمتها التي حُيّكت فوق وجهها..
كم يُشبهه!
جفونه الواسِعة التي تضُم مقلتين خضراوتين يومِضان، إنتفاخ شفتاه الوردية التي تُرطب بمرور لسانه عليها كل دقيقة، حتى بإنها إستطاعت تشمُم عِطره المُفضل يفوح من هيئة ذلك الغريب، سوى خصيلات شعره الطويل اللامع..وفِقدانه لعوينات عيناه، لأجزمت بإنه هوَّ."كيف أساعدكَ، سيدي؟"..إبتسامة دبلوماسية إرتسمت فوق شفتاها؛ لترى تحرُك مقلتاه تنتقل من الكتاب إليها في بطيءٍ مسرحيّ، لقد أردات تكذيب نفسها..أرادت إخراس قلبـها الذي يقرع بين ضلوعها صارِخاً بإسمه، ولكِنه أكد لها..توسـع عيناه فوق رؤيتها، هدم كُل محاولاتها في الهروب من الحقيقة.
"هيـذر؟"نبرته غير مُصدقة، نظراته لانّت مع تأمله لملامحها الناعِمة، والمُضطربة.
لم تشعُر بإن جبينها بدأ بالتعرق، أطراف أيديها يرتجِفان في سرعة، وعيـناها بدأت تستعرِض أمامها تلك اللحظات من ماضٍ ساحقٍ.
"هيذر.."همس بنبرته الحنونة، يده أفلتت الكتاب عنوةً، شفتاه حفرت طريقاً لإبتسامته الصغيرة، المُشتاقة..والحزينة.
نظرت حولها في قلقٍ وكأنها تبحث عن نجدةٍ ما؛ فتُفاجئ بخلوُّ المكتبة تقريباً من الحاضرين، لم تتصور بإنها قد تُوضع في موقفٍ كهذا، في المكان نفسه..ومع الشخص ذاته.
يالّهُ مِن قـدر!
ساق الأحداث بطريقته البارِعة، ليضعهما معاً في موقفٍ مشابه..كان بدايةً لحياةً إعتقدت بإنها حياةً مُفعمة بسعادةٍ أبـدية، وليست حياةً مُفعمة بإنكسارٍ أزلي.