؛)
24 سبتمبر – 1996
روما . .السماء رمادية،يشرنقها وشاح من غمام،تماما كوجهي،شاحب يراوده دخان سجارتي،عيناي هادئتان هامدتان،مثل خطواتي التي لم يغريها شيء للتسارع،حتى صافرة القطار التي بشرت بقرب انطلاقه.
وكفنتني ابتسامة ساخرة شعواء،ولهاث الصافرة البئيس يلفظ أنفاسه في مسامعي.
ولأنني أسطورة لم يسبق لها مثيل،لا يفوتني شيءحتى يخيل إلي أني مجذاب لكل عتمة،بل جل العوالم تنسكب في صومعتي ،
ولأنني كئيب جدا هكذا،استطعت ركوب القطار في اللحظة الأخيرة،ولولا أني أمتلك قدمي لصّ لانغلق بابه على قماش معطفي الأسود .
وهكذا اقتحمت القطار بكياني البائس،وطافت أحداقي حولي،وكدت أوقن أني وحيد،قبل أن تقع عيناي على سيدة تربض في المقعد الخلفي،تتلفع بوشاح أحمر طويل قاني،وعدا ذلك لا يوجد فيها شيء مثير للاهتمام .
أشحت بوجهي عن هذه السيدة الغامضة،وانطلق القطار،ومضيت أنا إلى مقعدي المعتاد،وارتميت فوقه،وأرسلت بصري إلى الخارج عبر النافذة،لأتنسل إلى صومعتي،وأشرنق العالم حولي بجدرانها،ومضى الوقت،وعزلتي تمتصني من الوجود الكائن،حتى لا تبق مني ذرة حية فيه .
وهشّمتني الذّكرياتْ،ولا تزال ساهِمةً في وجْهي،تتخابثُ على ألمه،وتراوده لِتضاعفه،وبتُّ أنا شعثًا مُتناثرا،حتّى ضاقتْ عوالمي بيْ،فبصقتني إلى الخارج مُرغمًا،وأعانَها على ذلكْ،صوتُ السّيدة الّذي جاءَ إليّ مكتومًا ساخِرًا :
- أتنتظر غائبًا،أتتألم مِن شوقكَ إليه ؟ . . أقولَ لكْ،انْسى،فغائبكَ لنْ يعودَ يا سيّد .
وصمتُّ عن الرّد،تارِكًا الدّخان الذي خلفته كلماتها يترنّح في المقصورة الفارغة إلّا منا،ويبدو أنّ صمْتي راقَها،فأسلفتْ بعدَ أن استيقنته،وما زلتْ لم ألتفت إليها،ولكن خُيّل إليّ وهي تُحدّثني بهذا الحديث،أنّها تُداعب أطراف وِشاحها بيدها،وتنظر نحوي بنظرة منغلقة إلا عن الشفقة،إذْ قالتْ :
- أأنتَ سارحٌ في مستقبلك،تخططّ له وتتخيّله ؟ .. أقولَ لك أيضًا،توقّفْ،فلا وجود لمستقبل منير .
ولمْ أكدَ أفتح فمي لأردّ،فمي الّذي يُكمل بتجمّده مِثل جُثّة،فوضى وجهْي،حتّى عاجلتني بحْديثٍ آخر،وما بدأت تتكلّم،إلّا وقد التفتُّ إليها بِعنق يتحرّك كغطاء بلاستيكيّ بين يدي عابث،فرأيتُ ذاتَ الفوضى في وجْهي،وقد تجمّدت في ملامحها،وكانت عيناها،عكسَ الثقبين الأسودين خاصّتي،الذين يُحالفان فوضَاي،كانتْ ساخرِتان،تحتقران كُلّ فوضَاها،وأصْغيتُ لِكلامها :- وأقولُ لكَ أيضًا،لا تتوقّع إلّا السوءَ بِهذا العالم،وإلّا ستضيع .
ثمّ تفقّدتني،فما لبثت أنْ ابتسمتْ ابتسامة مُنغلقة،لمّا أبصرتني،وعاجلتها بالرّد،وأنا أُدير جسدي فوقَ المقعد لأقابلها،هيَ ووشاحها الأحمر :
- أيّ إكبار تكنّينه لنفسك،حتّى تسمحين لها بأن تطلق الأحكام على العالم بهذه السرعة،وكأنك عِشتي آلاف القرون ؟!
رفعتْ حاجبيها،وعيناها تبرقان،ثمّ تكلّمت وبدا لي صوتها كأنْصال حادّة :
-بل عشتُ حياتي كاملةً،ووافيتُ كلّ الملّذات
- إنّكِ لمتناقضة،أيكون من ..
بترتْ جملتي إذْ قاطعتني بنبرة متهكمة :- وما أنتَ إلّا صبيٌّ غرّ يتذاكى
- وتسرعين الحكم عليّ أيضًا،أتحاولين أن تقنعينني بأنّ من وافى كلّ ملذّات الحياة،سيكون بهذا التشاؤم،وسيعيش في فوضى البؤس مِثل الموسومة على وجهكْ ؟ بربّكِ،أأنتِ مُشعوذة مجنونة أمْ ماذا ؟
وسُرعانَ ما ردّت عليّ،ببِرود :- ألم أقل لكَ ألّا تحسن الظنّ بهذا العالم ؟ ها أنت تتوقّع أنّ من يوافي ملّذات الحياة لا بدّ أن يعيش سعيدًا .. أرأيت ؟ مَا أنتَ إلا صبيٌّ غرّ في جَسدِ رجُل ..
وتخابثتْ نظراتها كثيرًا وهي تُعرّي ذاتي :
- رجلٌ أكَله الفقر،واقتات على أيّام حياتِه،فظنّ أنّ أنه هو البؤس الأمرّ الأوحد
وشعرتُ بأنّي أذوب مِثل دُمية بلاستيكيّة،وهيَ تُكمل حديثها :
- أنتَ تظنّ حقًا أنّ الحياة دونَ الفقر مبهجة جدًّا،وأنّه هو الظّلام،مُستندًا على قاعدة أنّه إذا وُجد ظلام فلا بدّ أن يوجد نور،وتوقن بأنّ هذا النّور هو في مُعايشة الحياة كاملة بملذّاتها ؟ . . أقول لكَ استيقظ يا عزيزي،مامن نور،مامن نور .
وأمسكتُ نفسي عنَ الذّوبان،وثقباي الأسودان يتّسعان،قُلتُ لها بِكبرياء :
- على الأقلّ أنا أفضل ممّن سَمح للتشاؤم بالهيمنة عليه،واستسلمَ ليأسه وَنسى البحث عن النّور الذي لا بدّ أن يكون موجودًا في هذا العالم،أفضلَ مِنكِ سينيوريتّا
أحنت رأسها،وابتسمت ابتسامة ساخرة متكّسرة وكأنّ هذا اللّقب يعني لها شيئًا،وردّت عليّ بِيقينٍ لم تفارقه سخريتها :
- وإنْ بحثت عنه،أقول لكَ أنّي لن أجده . . لأنّه ببساطةٍ،النّور ليس إلّا في السّماء .