تهُويدة

560 23 15
                                    

في قمة جبل ذو طُرق وعره ، شُيدت تلك القلعة الضخمة ، ذو الجدران العتيقة والتي لا تزال صامدة رُغم مرور سنين على وجودها ، الغبار بين أحجارها يَتحدث عن ماضيها ، الهالة الغريبة حولها ؛تُفسر كونها المكان الوحيد الحيُّ في هذا الجبل ، تلك الطرق الوعرة ؛ قد تقتلك وتلقي بك إلى سفح الجبل ، قبل أن تصل لهذه القلعة ..
فَي منتصف ليلة باردة ، وعند بزوغ القمر الذي يكاد ضوءه يختفي من كثافة الغيوم ، بدأت تلك الحفلة السحرية ..
يصل الحضور دخولاً بحديقة القلعة الكبيرة ، والأقرب لأن تكون غابة تكاد أشجارها تخفي جُدران القلعة ، ينزلون من سيارتهم الفاخرةِ السوداء ، نساء بفساتين تبرق كَبريق النجوم ، فستانٌ يخفي السيقان ويظهر انحناءات الجسد ، وآخر ينسدل ذيله أرضاً ، جاعلاً الرجال في حلبة للفوز برفع هذا الذيل عن الأرض ، والسماح لهذه الأميرةِ الحسناء بالمشي بحرية.
رجال ببدلات سوداء ؛ تُظهر طول قاماتهم ، وعُرض أكتافهم ، وآخرين تَظهر تلك النظرة الي تجعل الكهرباء تَسري بجسد كُل من يضع عينه بعينِه
لكن ملامح الجميع كَانت مخفية عن الأنظار .. خلف تلك الأقنعة المختلفة ، ذهبية لامعة ، تركوازية مع ريشةً طويلة ، قُرمزية ، و سوداء قاتمة
ينتهون من المرور بالممر المحفوف بالأشجار ومُختلف النبتات والزُهور العبقة ، دخولاً لساحة القلعة الداخلية ، والتي زُينت جدرانها بنقوش ذهبية ، وستائر حريرية تُغطي نوافذ شاهقة الطول ، ثُرية كبيرة تُلفت انتباه كُل من يدخل هذه الساحة ؛ ذات مجوهرات مُتلألئة تتدلى خيوطها لتنتهي بكرات مُضيئة يكاد بريقها يُعمي العيون ، أرضية رخامية ناصعة ، طاولات مَملوؤة بَشتى أنواع الأطعمة ، فطائر من أغلى أنواع الخُبز الفرنسي ، وحلويات صُنعت في أشهر المطابخ السويسرية .. كان المكان أشبه بلوحة فنية لِرونالدو ، حيث يَمتزج لون الذهب بلون فستاين النساء الدكانه ، وبدل الرجال السوداء
موسيقى هادئة بدأت ، وتبعتها الأنوار حُين أطفئت إلا الخافتة مِنها ؛ والتي رُكزت على الثنائيات اللذين يرقصون بتناغم بساحة تلك القلعة على هدوء تلك الموسيقى ، ويخفون إبتسامات خفيفة خلف تلك الأقنعة ..
قرب أحد الطاولات المُمتلئة بالطعام ، يقف فتى طويل القامه ، مع شعر رمادي اللون ، وقناع ذهبي ، يخفي جزء من ملامحه ؛ ويظهر رسمة فكه المنحوته ، وحدة عينيه التي باتت تقلب ناظريها بالأنحاء ؛ وكأنها تبحث عن شخص ما
بعد أن شعر أنه خسر بالإمساك بهدفه ، ارتشف من كأس الماء الزجاجي الذي يمسكه بيده ، وأكل من قطعة الحلوى التي تغطي الكريمه الخفيفه بداخلها ؛ طبقتين من البسكويت الهش ، مُزينة بقطعة توت بريٍ أعلاها
توقف عن الأكل بعد قضمة واحدة ، وكأن فكرة ما نزلت عليه من السماء ، وضع نصف قطعة الحلوى المتبقية على الصحن الأبيض بقربه ، مسح بقايا الكريمه الطرية من فمه ، وابتسم ابتسامة جانبيه
خرج عبر باب القلعة الكبير ، ومشى مُبتعداً عن ساحة الرقص ، وببطء .. صوت الموسيقى ينخفض ، وصوت حفيف الأشجار ومداعبة الرياح لها يعلو ، ذهب للمنطقة خلف القلعة ، توقف عند أحد الأسوار ، دقق النظر للحظة ؛ كي يتأكد أنه لا يزال بالوجهة الصحيحة ، سَمع صوتاً قادماً من الأعلى ، فابتسم ابتسامة نصر ، صعد على الأسوار واحداً تلو الآخر ، حتى وصل لآخر سور ، حيث كانت تجلس فتاة في مسافة أكثر أرتفاع منه ، شعرٌ قامت كسواد الليل ينسدل على أحد كتفيها ، فستانٌ أسود اللون ؛ يظهر نحاله خصرها وجمال ساقيها بقماشه المنفوش القصير ، خصلاتُ شعرها تتطاير مع الهواء ، وضعت حذاءها العالي قربها ؛ بعد أن خلعته كي تشعر بالهواء الذي يداعب قدميها المتأرجحتين ، كانت قد خلعت القناع أيضاً وأمسكته بأحدى يديها ، مظهرةً ملامحها البريئة ، عينين واسعتان ذو بؤبؤ فاتح اللون، كانتا كمرآة للسماء السوداء المُرصعة بالنجوم ، شفاه حمراء صغيرة ، وخدين بلون الورد ، كانت تستشعر نسمات الهواء بكل ما لديها من أحاسيس ، بلا أن تبالي ببرودته القارصة ، فمن هذي البقعة ، تستطيع رؤية الغابة كاملة بوضوح ، كما أنها ترى قطع الغيوم على صفحة السماء فوقها ، والتي تغطي سفح الجبل
ظَل سونقتشول يتأملها بابتسامة ، مُمتعاً عينيه بها ، ومُغرقاً فؤاده بِسحرها ، لم تَشعر بوجوده حتى قاطع حديثها الصامت مع الهواء قائلاً " لا تزالين تُحبين هذا المكان " ، فُزعت للحظة وعَقدت حاجبيها غير مرحبة عند رؤية كائن غريب يدخل حدود منطقتها الخاصة ، وتمتمت بريبة " مَ-مَن أنت ! " ابتسم سونقتشول مُدركاً سبب نفورها منه ، فهي لم تعرف هوية الشخص الذي يَقف قٌربها حتى الآن
إبتسامته لي كانت غَريبة ، لِمَ ينظر لي وكأنه ينتظر مِنّي أن أعرفه ؟ همم حسناً .. عند النظر لهيئته ، يبدو شخصاً وسيما ، قامة طويلة وملامح لا بأس بها ، لكنني أكاد أقسم أنني لا أعرف شخصاً بهذه الملامح ! أتساءل كَيف استطاع الوصول لهذه المنطقة ، حتى أبي لا يعرف مخبأي السريّ هذا ، لكن .. هُناك شخص واحد يعرفه ، مُستحيل هذا احتمال بعيد جداً !
كَان سونقتشول مُستمتعاً بتأمل عينيها التي باتت حائرة تبحث عن جواب ، مُتحمساً للمفاجئة التي ستقابلها ، وقَبل أن يَقتلها الفضول ؛خلع قناعه الذهبي ونظر نحوها قائلاً " مرة مدة .. أيتها الأميرة الصغيرة .. لافينيا "
خَلع قناعه مجيباً بِ " نعم " على تخميناتي التي شعرت أنها شِبه مستحيله ! شخصٌ واحد يَعرف مخبأي هذا ، شخصٌ واحد يناديني بالأميرة الصغير!
اتسعت عيني لافينيا ، تمتمت " س-سونقتشول ؟ " ، ابتسم سونقتشول مؤكداً إجابتها ، حينها أعلن صبرُها نفوذه ، لن تستطيع السكون في مَكانها بعد الآن ، لحظات وقامت سريعاً هاتفه " سونقتشول !! " قفزت لمستواه وأسرعت بالركض نحوه حافية القَدمين ، حضنته بقوة بينما تقول " لا أصدق أنك أتيت مجدداً ! " ، إرتسمت تلك النظرة السعيدة على وجه سونقتشول ، أيُ من يراها سَيدرك أن سونقتشول واقعاً بِحُب تلك الطفلة ، عينيه .. كَانت تنطق بِذلك ، مسح على شعرها قائلاً " لقد كبرتي حقاً " ابتسمت لافينيا بغرور قائلة " لقد أصبحت أجمل صحيح ؟ " ،
أجل .. وكأنكِ خُلقت من شُعاع القمر ، جميلة كما كُنتِ دائماً بعينيّ
إكتفى بالإبتسام بسخرية ، وأخفى تلك الإجابة بقلبه
فأكملت بينما تنظر لقوامه الطويل " لكن .. لا أصدق كيف تغيرت هكذا ، لقد كُنت فَتى قصيراً عندما كُنت طفلاً " ، " كم مر من الوقت على آخر لقاء بيننا ؟ " ، " أتذكر أنني كُنت في الصف السادس ، بينما كُنت تكبرني بسنتين ، اممم سبع سنواتٍ تقريباً ! " ، أصدرت لافينيا أنينياً خفيفاً ، وألقت نظرة على باطن قدمها بينما توكئ جسدها عَبر الإمساك بذراع سونقتشول ، وتمتمت " لابد أنني دعست صخرة صغيرة بعد نزولي للتو " ابتسم سونقتشول قائلاً " أستطيع أن أقول الآن أن جسدكِ كبر ، لكن عقلك لا يزال كَما هو " تجاهل سونقتشول إعتراضها على كلامه وثرثرتها ، رفع الكعب من الأرض ووضعه أمامها ، أمسك بإحدى قدميها ، نَفض عنها الغبار وألبسها كعبها الفضيّ ، ابتسمت لافينيا بسعادة واوكأت يديها على كتفه كي لا تفقد التوازن ، رفع سونقتشول نفسه بعد ان ارتدت الكعب ، مد يده نحوها وابتسم قائلاً " هل تَسمحين لي برقصة ؟ " ، ابتسمت لافينيا بسخرية ، وأمسكت بيده موافقة ، فنزل من السور قبلها ، ورفع يده كي يحاذيها ، أمسك بخصرها النحيل وأنزلها إليه
سونقتشول .. لقد كان صَديق طفولتي ، كان يأتي للزيارة كثيراً حَيث أسكن مع والدي هُنا ، كان المكان موحشاً عندما أكون لوحدي ، لكن .. حينما يكون معي يُصبح الأمر ممتعاً جداً ! اللعب بالأنحاء والإختباء بين الأشجار يَجعلني أُحب وجودي هنا ، بِعكس المشي وحيدة بمساحات كَبيرة حين لا يَكون بالجوار ، كُنت أعده كأخي الأكبر دائماً ، كان يساعدني في كُل شيء .. سونقتشول ؛ كان الصديق الأفضل والوحيد لي
وصل كُل من لافينيا وسونقتشول لساحة الرقص ، فقابلا والد لافينيا ، ألقى سونقتشول التحية عليه فابتسم والدها قائلاً " مرت مدة .. لقد كَبرت حقاً وأصبحت رجلاً وسيماً " رد سونقتشول بخجل " شكراً لكَ " ، أكمل الوالد " حسناً إذاً استمتعا بوقتكما " وذهب بعد أن رَبت على كتف لافينيا ، حولت لافينيا نظرها نحو سونقتشول بينما تبتسم والحماس واضح على وجهها ، فأخفى سونقتشول وجهه بقناع كما فعلت هي أيضاً ، ثم وضع إحدى يديه على خصرها والأخرى أمسك بها يدها ، بينما حوطت لافينيا يدها الأخرى على كتفه العريض، بدأ الإثنان بالرقص ببطء على نغمات الموسيقى بينما يتبادلان الإبتسامات ، وكأنهم يتحدثون حديث صامت عن ذكريات الطفولة ، ألمت بهما تلك الساعة عاطفة متنوعة الألوان مختلفة الأشكال ؛ كأنما هِي مزيجٌ من الحب ، والإشتياق ، السعادة ، والحماس
اشتغلت موسيقى أكثر صخباً ، سرعان ما أبعد سونقتشول لافينيا عنه بينما لا يزال يمسك بيدها ، فدارت بخفة بجسدها النحيل ، وقفزت عالياً ، بينما يحوط سونقتشول ذراعيه حولها ، و بلحظةٍ ما كادت أن تنزلق ؛ لكن سونقتشول وضع يديه خلف ظهرها مُمسكاً بها بآخر لحظة ، ابتسم قائلاً " لابد أنكِ فقدتي مرونتك " ضربته لافينيا بخفة على صدرة متذمرة من كلماته المُزعجة ، بينما ابتسم سونقتشول سَعيداً بمغايضتها
كَان الإثنان على وشك العودة للرقص في ذلك الجو الصَاخب ، لكن .. فَجأة وبِغمضة عين ، قُطعت الكهرباء ، أُغلقت الموسيقى ، حل ظلام دامس ، مع صوت هَمسات الناس المُرتعبة
شدت لافينيا بالإمساك بذراع سونقتشول ، قرّبها إليه بينما يتمتم محاولاً تخفيف التوتر " لابد أن الكهرباء قُطعت لثوانٍ " ، لكن صَوت الرعد القوي أفزع الجميع ، صرخت لافينيا بخوف مُمسكه سونقتشول بِكلتا يديها ، ابتسم سونقتشول قائلاً " لا تقلقي ؛ صوت الرعد فقط ! " رغم أنه شعر بشيء ما .. شيء لا يتوقف في كونه إنقطاع للكهرباء بليلة ماطرة فقط
اضاء البرق القاعه لثوانٍ معدودة ، مع إشتداد هطول المطر القوي بالخارج ، تلى ذلك صوت صرخة انتشرت في انحاء القاعة ، ارتبك الجميع مُتسائلين عن مصدر هذه الصرخة ، أشارت إحدى النساء بينما تصرخ " قَ-قَاتل ! " ذُعر الجميع وأثارت كلماتها فوضى في أنحاء القاعه ، وبينما هم ينظرون بالأنحاء اضاء ضوء البرق مجدداً فانتبهوا للمكان الذي تُشير تِلك المرأة نحوه ، حيث يقف شخص ما عند الشُرفة المَفتوحه ، والذي تسللت عبرها قطرات المطر إلى القاعه
كَان ظلاً لشخص يقف مُمسكاً بفتاة بدت فاقدة لكل قوتها ؛ بدت كَ ..جثة !!
بدأ الجميع بالصراخ والتوجه نحو البوابات للخروج ، بينما ظلت لافينيا تُمسك سونقتشول بقوة خوفاً مَن أن تَفقده ، وهي تتمتم مَذعوره مُضطربه " م-مالذي يحصل " ، فَجأة .. عَادت الكهرباء للمكان ؛ وعادت الموسيقى للعمل .. لكنها لم تَكن نفس الموسيقى ، كانت موسيقى غريبه .. موسيقى مُرعبه لَا معنى لها
دنى أحدهم نحو الشرفة ، ليرى جثة فتاة هامدة حولها الكثير من الدماء ، كانت الصرخات تتعالى والفوضى تعم المكان ، صرخت إحدى النساء " أين اختفى القاتل ! ه-هل قفز ! " كان وجه الرجل قرب الجثة شاحباً ، نظر نحو الجميع وتمتم" إن قفز من الشرفه ؛ فالموت ما سيقابله ، هذه الشرفة أسفلها سَفح الجبل ! ، لا يوجد سبيل للنجاة .. إنه .. لم يَهرب "

تهُويدة - Lullaby ~~ ✔️حيث تعيش القصص. اكتشف الآن