نُقصٌ خلقَ زيادة

16 2 0
                                    

" نقصٌ خلق زيادة "
افلام الكارتون و كل ما يُعرض على التلفزة, على المذياع, كلام البشر, بعضها كنت امثل انني استمتع بسماعها والبعض الاخر كنت محترفٌ بإقناع ذاتي بأني شخصٌ عادي و كل هذا من روتين يومي الممل ,لكن انا لستُ كالجميع !

بينما يسمع الناس الموسيقى او من يناديهم و يهمهمون لحناً سمعوه منذ الصغر احياناً ,انا لم اكن مثلهم واحياناً اشعر انني لست منهم, جميع البشر لديهم خمس حواس كما كنت اعرف منذ صغري في احد كتب الاحياء التي تناولناها في المدرسة ولطالما تسائلت كيف هو احساس الحاسة التي افقدها.

اقنعتني امي انني مميز وان الله يختبر صبري و عليّ ان اتكيّف واحاول ان استغل قلة حاسة بمضاعفة حاسة اخرى، كانت اللمس أو حري بي القول, النقر, رغم إن النقر لم يكن حاسة لكنه كان تفريغاً لمشاعري فكل ما اشعر به من ارتيابٍ أو سعادة أو غصةٍ حزينة كانت قراءة النوتات على ورقةٍ امامي هو كل ما يسليني  ويجمع السلبية من جسدي و عقلي ليرمي بها بعيداً عني وهذا ما كنت احتاجه فبطبيعة الحال أنا رجلُ متشائمُ بعض الشيء او كما كنت أرى نفسي .

كل ما افعله هو النقر فانا أتعلم درس البيانو منذ ستة عشرة سنة بالضبط ,كلما هممت بإنهاء الدراسة اخذتني قدماي الى شرفةٍ تعج بالسّعة والفراغ وبعض الاثاث العصري التي كانت امي مولعة به انذاك ,اجمع على نقراتي ما استطعت ,من ما مر عليّ من معزوفات ,و ذات يوم وانا في مطعمٍ في احد الاعياد وبعد انتهاء شكليات المعايدة اخذ كلٌ منا كرسيه وتناول عشاءه .

فجأة صَمتَ الجمعُ والتفتَ يحدقُ حول نقطةٍ واحدة تقبع خلفي فأثارني الفضول لأقرأ المنظر أو اعرف حول ماذا كل هذا الاهتمام على الأقل و يا ليتني لم التفتْ .

رأيتُ آلة پيانو و من كانت تعزف عليها امتازت بلون شعرٍ لم أرى شبيهاً له طِوال حياتي لقد كان اسوداً و بلمعةٍ زرقاء لكنها فاترة مقارنةً بلون عينيها الزرقاوتان أكثر ,أسرني منظرها فلم اسمع ما عزفت
لأني كنت بعيداً لاقرأ نقراتها فقررت ساقاي ان تتوجه نحوها رغم خفقان قلبي بشدة و صدود عقلي قليلاً عن ما يحدث ,عندما وصلت انحنتْ للجميع و بعد ان رأتني اتقدم زاحت من نفسها قليلاً لتترك لي فسحةً على الكرسي لنعزف سوياً , فعزفتُ ما اشعر به من سعادةٍ و ارمي بنظراتي التي لم يكن لعقلي حولاً ولا قوة فهذا كان امرٌ من القلب .

بعد انتهائنا وتصفيق الحضور لنا بحرارة بقيت كالابله لم ازح نظري من عنها ,بعد لحظاتٍ شعرت كم هي متعجرفة ,اخذت تبتعد من دون ان تلقي تحية شكر او وداع او حتى احترام , عدت الى طاولة العشاء العائلية فاستقبلني الجميع بحفاوة و بعضهم من مسح كتفي و شعري و من سلّم عليّ بمصافحة تقديراً لجمال ما عزفته لكن اياً منها لن يساوي شعوري لو التفتت عليّ مرةً واحدة .
مرّت ثلاث سنواتٍ كانت قد ولت مرحلة الاستهزاء بي في المدرسة وفي البقالة و اطلاق القابٍ عليّ
لم اكن اعلمها الا بمساعدة من يتفضل علي و يكتبها على ورقة عوضاً عن ان ينطقها ,لم يأخذ هذا حيزاً كبيراً من كئابتي حقاً .

عادت بي هذه الذكريات فجأة وانا اتمشى خارج الجامعة و بيدي بضع اوراقٍ لمادةٍ صعبة كنت اتفحصها لارى نتيجة بحثٍ كتبته حول موضوعٍ في علم  الاحياء الذي انضممت لدراسة الكلية عنه بشكل اوسع لولعي به منذ ان تعرفت على الحواس الخمسة في اول حصة لي معه .

كانت النتيجة مديحاً وفخراً وموعداً لتقدير و منحةً دراسية كل هذا في كومة اوراق بيدي لم اعرف ماذا افعل سوى تراقصي بشكلٍ بهلواني و صف اسناني الذي بدا واضحاً بسبب ابتسامةٍ شقت فاهي من الاذن للاذن

كانت تجلس في الصف الاول و تصفق لي بحرارة وبعد انتهاء مراسيم الحفل تقدمت و قالت "أيعقل هذا؟ انه انت ,عازف البيانو" كان كل ما قرأته هو كلمة "بيانو" فأومأت براسي ورحت ابتسم لانها تذكرتني و بادرت لحديثي اخيراً .

اخذ اسمي يعلو يوماً بعد يوم في الجامعة و اصبح لي صديقة او استطيع ان اقول حبيبة رغم شعوري بالنقص الدائم الا انني لم استسلم لهذا الاحباط .

توالت عليّ العروض والفتيات محاولةً لاستمالتي واعجاباً بما قدمت لكن قلبي لم يخفق الا لها
و ذات يوم وجدت رسالة تقول بما لم تستطع حبيبتي اخباري اياه وجهاً لوجه كان مضمونها بأن والدها خسر عمله و سيجبرها هذا لترك الكلية لانتقالهم الى منزلٍ يقطن بعيداً عن المدينة .

فأهديتها المنحة المجانية فمرت سنة و اذا بي اقرأ على وجهها ملامح ملل من وجودي و احياناً ترسم كلمة "اطرش" على شفاها ,كانت جذابة على أي حال هممت لبحثٍ اخر ونلت التقدير ايضاً ,وكأن لهذا التقدير مغناطيساً ويزيد حبها كجرعاتٍ لأيام قلال ,, مهما يكن لقد كان هذا يغرقني بالاطمئنان لانها راضية عني.
حوربت بسبب بحوثي واستمات الجميع على تخريبها ,تحطيمها ,الغائها تمزيقها ,اعلان اشاعاتٍ مبغضة عنها , فقررت ان اترك الحب لاجل العلم استجمعت قواي وابتعدت عن حبيبتي بنفس البرود الذي ابتعدت به هي عني عند اول مرة التقينا سويةً .

اعتكفت في غرفتي التي حولتها لمختبر ابحاث وتطور فضولي حول كل الكائنات التي تعيش معنا هممت للتعرف عليها و لم املَ قط .

اكتشفت ان شعوري يبالسلبية اقتصر فقط حول كون البشر من حولي فوجدت راحتي في العزلة التي كانت تتخللها محاضرات امي حول العيش في هذه الحياة كرجلٍ طبيعي .

فقدان حاسة من الحواس لم يكن عائقاً امام الحب فقد وجدته وانا اتنقل في مختبر احدى الجامعات التي استنبط بحوثي منها ,قلة انتباهٍ لما امامي لوهلة واصطدامي بزجاجة محلولٍ حارق من يدها كانت كفيلة بخلق قصة حبٍ بين احيائيين عاشا نفس الولع ,بعدما بكت هي لاحتراق يدي وبكيت انا من شدة المي خلقت هذه الدموع ما لم يستطع غيرها خلقه في قلبي ,كانت ثمرة هذا اللقاء طفلاً بعد سنتين !
تعلمت من زوجتي عدم التذمر وبالرضاء عمًا احببت بدون التطلّع لما هو اعلى قبل اقتناعي بما امتلكت فكما كانت تشبهه بأنه كصعود سلم فيجب عليك الثقة والايمان بان قدمك اصبحت جاهزة لتحط على درجةٍ واقعية وليست خيالية ثم ترفع الاخرى لتجد درجة اخرى يمكنك الوثوق بها .

لم اقتنع ان لنهاية السلم وجود لان الموت كان محتوماً في النهاية لكن الاوفر حظاً هو من تسلق درجات السلم الاعلى والاكثر عدداً .
اقتنعت بما اغتنمتُ من هذه الحياة رغم افتقار كوني كسائر البشر لكنني امتلكت حباً شريفاً وعلماً مشبعاً بالتسبيح لعظمة الخالق الذي عوضني ,لم اكن انساناً عادياً , كنتُ مختلفاً كما اصبح ابني
تعلّم حب التطلع الى المخلوقات الصغيرة و تعلم النقر مني حتى , النقر , و قراءة الشفاه والكتب والنوتات و بحوث والداه  .

نقصٌ خلق زيادة هكذا انا .

كم ألف كلمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن