إنه لمن العار أن تدركك الحياة بخيبة آمالها، أن تصيبك بأسهم الشيب، وأنت لازلت شاب، تفقدك نضارتك، و تقضي على إرادتك فتصبح أنت على حياتك لصريع .
باغتتني الحياة بمفاجأة أبدلت أحلامي رأساً على عقب، أنقلتها من التطلع إلى الوصول للقمة إلى التطلع إلى البقاء على القاع ! نعم فقد أصابني ذلك المرض اللعين، الذي سيودي بحياتي مثلما قضى على حياة الآلاف غيري .
لم يكن ذاك فكري بل لم أفكر يومًا بتلك الطريقة ، فأنا حياة تلك الفتاة التي تحمل معاني اسمها، أو بالأحرى مثلما يقولون لي بأن ذلك الاسم خلق لأكون أنا صاحبته، فأنا الحياة ، أحب المرح، مفعمة بالحيوية، معروفة لدى الجميع بحبي للتحديات و المغامرات ، حتى بعدما عَلِمتُ بمرضي لم تنقص من عزيمتى الضئيل، بل اعتالتني طاقة من الحماسة لخوض ذلك التحدي الجديد الذي رُسِمَ، لم أنكر أن في بداية الأمر أصابتني صاعقة، و اصطكَّت ركبتاي، بالإضافة لإضطراب نبضات قلبي، و تصارع أنفاسي في الخروج بشكل عشوائي، أتخذت بعض الوقت لأكون في النهاية على دأبي، تلك الحياة التي لا تعترف بالهزيمة ولا تخضع للصعاب .
أتخذتُ قرار خوضي لتلك الحرب الضارية مع ذلك الوحش الكاسر مثلما اسميته، و عزمت على هزيمته .جعلت من غرفتي في تلك المشفى حصن استعد من خلاله لحروبي القادمة، لم أكن وحيدة في تلك الغرفة، بل قد اُقتُسِمَت تلك الغرفة بيني و بين فتاة تتشابه معي في السن، و تختلف معي في الشخصية، فكانت هشة، ملامحها وهنة .
اخترقتني فكرة لم أتمهل الكثير للتفكير فيها، بل أسرعت بتنفيذها .
اقتربت من الفتاة بخطى متريثة، جلستُ على حافة سريرها الموضوعة عليه، ثاقبة عيناها في اللا شئ .
أغمضتُ عيني للحظات محاولة فيهما تجميع كلماتي ثم أردفت بسعادة"مساء الخير أنا حياة زميلتك في المعركة " .
نظرت لها الفتاة بعدم فهم، و قد قطبت جبينها فأكملتُ بإبتسامة مليئة بالحماس "معقولة متعرفيش المعركة اللي أحنا فيها؟ قصدي المرض اللي جايين نواجهه هنا، و نهزمه" .
اكتفت الفتاة برسم بسمة ساخرة قبل أن تحيد بنظرها مرة أخرى إلى الفراغ مما أصابني بالإنزعاج بالإضافة إلى روح التحدي من سخريتها، فأكملت ببسمة سخيفة ملأت وجهي "لا مش حنبدتيها تخاذل كده، ده كده العدو حيكسبنا، و انا مقبلش الهزيمة أبدا، و على رأي المثل أيد لوحدها متثقفش" .
ظل الصمت هو لغة تلك الفتاة البائسة، فقمتُ بمحاولة أخرى "هو أنا حفضل أكلم نفسي كتير، ده حتى وحش عليا، وأنا لسه في زهرة شبابي" .
لم أتلقى أي إجابة مرضية، بل لم استمع لصوت سوى الصمت المتجول في جميع انحاء الغرفة، و الذي لم يجني سوى اشتعالي .
زفرت بقوة من محاولاتي الفاشلة معها "شكلك من اللي بيخافوا الحروب، و بيكرهوا التحديات، و بيستسلموا من اتفه الأسباب لكن انا لا و مستحيل أكون كده، ولا حسمح لاي حد يديني طاقة سلبية، أنا حياة و حفضل أقوى حياة" .
أولتيها ظهري سايرة صوب سريري في الغرفة، و أنا عازمة على ردع الوحش من النيل مني، بل سأنال أنا منه، و سأجلس أتلذذ، و أنا أراه يلفظ آخر أنفاسه في جسدي راحلا عنه مرغماً بإرادتي .ذهبت الأيام سريعا؛ وكأن هناك من يجروا خلفها، و لم تحصد معها سوى عزيمتي الآبية للخنوع، بدأت مراحل علاجي الكيماوي، و التي شعرت فيها بمعاناة من هم مثلي، أصابني الضعف لقوة العلاج، تساقطت خصيلات شعري واحدة تلو الأخرى، أصبح وجهي شاحب، أدركت حينها مدي قوة الحرب الناشئة بيني و بين المرض، بل أدركت أيضا أن الأمر لم يعد يختص فقط بحربي مع المرض، بل حربي مع إرادتي التى بدأت في الإستنزاف، و حربي مع صاحبة الصمت القاتل، و الاهم من ذلك و ذاك هو حربي مع نفسي و هى الأشد خطرًا مما سبقوا .
توالت الأيام وأنا أحاول جاهدة أن أبقى حياة، أو بالأجدر أبقى على قيد الحياة، فجرعة الكيماوي قد تملكت مني، أصبحت مناعتي على ركيكة، بدأت أفقد الشعور بالجوع الذي ساقني حينما بدأت تناول القليل من الطعام مما تسبب في فقدان الكثير من وزني، أغمضتُ عيني، و ظللت اُحَدِث نفسي قائلة "أنا أقوى من المرض، أنا قادرة أموت الوحش، أنا حتغلب على مرضى ، أنا مش ضعيفة "
تلك الكلمات التي أحاول بها رفع معنوياتي، و الإستمرار في حربي المميته، أثناء ترديدي لتلك الكلمات في صمت ، أطلق على أذني صوت ! استغربت الأمر في البداية، ولكنني تذكرت سريعًا بوجود فتاة أخرى معي، قد نسيتُ أمرها، ولكن لحظة أتلك الفتاة لم تكن خرساء !
نظرت تجاهها فوجدتها مازالت تنظر للفراغ قائلة "تعرفي ليه السرطان اتسمى بالأسم ده ".هززتُ رأسي بالنفي و أنا أنظر لها منصته إليها فأكملت قائلة بسخرية عاهدتها دائمًا منها في نظراتها "أتسمى كده علشان الشبه الكبير بينه وبين حيوان اسمه السرطان بيطبق على فريسته في أي مكان في جسمها، و بعدين بيمد أطرافه المتعددة في كل الأتجاهات، يعني من الآخر مش حننفد منه لأنه مسبلناش طريقة للهرب ".
سار الصمت لبرهة قبل أن تتحدث الفتاة بنبرة حزينة و هى مطأطأة الرأس "أول يوم جيت فيه هنا كنت زي أول يوم ليكِ كده، قعدت أقول أنا أقوى من المرض، أنا حغلبه، و الكلام الأهبل ده ، و بعد أيام بدأت أضعف يوم عن يوم، و شعري يوقع لحد ما وصلت للمرحلة اللي أنت بقيتي فيها، لما قعدتِ تكلميني، و تقولي معركة و كده فكرتيني بنفسي، مرضتش أتكلم و أحبطك من الأول، و أقولك أن المعركة دي نتايجها محسومة من قبل ما تبدأ، و كده كده حتكوني خسرانة فيها، قولت أسيبك تعيشي يومين في المقاومة الوهمية بتاعتك لحد ما بقيتي أنتِ كمان زيي ".
أردفتُ مسرعة "بس أنا لسه مستسلمتش، و عمر ما الإستسلام كان في قاموسي ولا حيكون ".
أجابت الفتاة بإبتسامة سخرية كعادتها "حماسك أول يوم جيتي فيه هنا مبقاش موجود دلوقتي حتى لو كان لسه موجود فيكون شبه الرماد الهش مسيره في الايام الجاية يروح ".
أردفتُ و قد جال في خاطري فكرة "على الأقل لسه موجود عندي حماس حتى لو زي ما قولتي رماد ، ممكن يكون الرماد ده القشة اللي تنقذني من الغرق و تنقذك معايا ".
ردت الفتاة بسخرية أكثر "دي أحلام، القشة مش بتنقذ، القشة بتغرق أكتر، و النهاية واحدة حنموت هنا "
أنت تقرأ
رحلة حياة
Short Storyإنه لمن العار أن تدركك الحياة بخيبة آمالها ، أن تصيبك بأسهم الشيب و أنت لازلت شاب ، تفقدك نضارتك ، و تقضي على ارادتك فتصبح أنت على حياتك لصريع .