من الذي يفتي الناس؟!
وبعدما تقدم، فقد كان لا بد للناس، الذين يدينون بهذا الدين، ويريدون أن يطبِّقوا أحكامه وشرائعه على حركاتهم وسلوكهم ومواقفهم ـ لا بد لهم ـ من مرجع يرجعون إليه، ليفتيهم في أمور دينهم، ويبيِّن لهم أحكامه، من دون أن يتعرض لرواية عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لا من قريب، ولا من بعيد.
وبديهي، أنه لا يمكن السماح لكل الناس بالتصدي للفتوى؛ لأن ذلك يحمل معه مخاطر كبيرة وخطيرة، ويجعل السلطة في مواجهة مشاكل صعبة، ويضعها أمام إحراجات لا طاقة لها بها. وذلك حينما تتعارض فتاواهم وتتناقض.
أو حينما تصدر عن بعض الناس فتاوى قد يعتبرها الحكام ومن يدور في فلكهم مضرة في مصالحهم في الحكم، أو في غيره.
وهذا الأمر يحمل معه أجواء الاستدلال والاحتجاج، والتأييد والرد، ثم الإدانة، وتسفيه الآراء.
ومعنى ذلك هـو: العـودة إلى طـرح النصـوص القرآنية، والكلـمات والمواقف النبوية، كوسائل إقناع واحتجاج، فيكون ما فروا منه قد عادوا فوقعوا فيه.
مع ما في ذلك من إضعاف لمواقع ولرموز لا تريد لها السلطة أن تضعف بأية صورة كانت.
ويأتي إضعافها وضعفها باتضاح أنها في درجة أدنى من حيث المعرفة والعلم بالقرآن والسنة، وأحكام الدين، وتعاليم الشريعة.
ثم هو يتسبب بالإحساس بالغبن، وبالمظلومية بالنسبة لأولئك الذين يملكون المؤهلات الحقيقية للفتوى، حين يكون التعامل معهم، والموقف منهم، ومن كل ما يقدمونه من علم صحيح ونافع لا يختلف عن الموقف مما يقدمه أولئك الجهلة الأغبياء، الذين لا يملكون من التقوى ما يمنعهم عن الإفتاء بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير.
أضف إلى ذلك: أن هذا من شأنه أن يضعف الثقة بالسلطة، التي انتهجت هذه السياسة، وشجعت هذا الاتجاه.
هذا كله، عدا عن أن الحكم يريد أن يتبنى اتجاهاً فكرياً خاصاً ومتميزاً، يخدم أهدافه الخاصة والعامة.
ويريد أن يزرع في الناس مفاهيم، ويحملهم على اعتقادات، ويلزمهم بأحكام لا يدع لهم مناصاً من الالتزام بها، والجري عليها وتبنيها، في مختلف الظروف والأحوال.
ولن يكون ذلك ميسوراً له في ظل هذه الحرية في الفتوى، وفي الاستدلال عليها.
حصر الفتوى في نوعين من الناس:
ولأجل ذلك، فقد كان من الطبيعي أن لا يسمحوا بالفتوى إلا لنوعين من الناس.
الأول: الأمراء، وذلك في الأمور الحساسة، فيما يبدو.
الثاني: أشخاص بأعيانهم، يمكنهم تسويق فكر السلطة، بصورة أو بأخرى.
ولأجل توضيح ذلك فإننا نشير إلى كلا النوعين باختصار، فنقول:
أولاً: الأمراء:
أما بالنسبة للأمراء؛ فإننا نقرأ في التاريخ: أن عمر بن الخطاب قد أنكر على بعضهم بقوله: «كيف تفتي الناس، ولست بأمير؟! ولي حارها من ولي قارها»([1]).
وكان ابن عمر إذا سئل عن الفتوى قال: إذهب إلى هذا الأمير، الذي تقلد أمور الناس، ووضعها في عنقه([2]).
وقـد امتنع ابـن عمر عن إفتاء سعيد بـن جبير، وقـال: يـقـول في ذلك الأمراء([3]).
وقد أطلقوا على الفتوى اسم «صوافي الأمراء».
فعن المسيب بن رافع قال: كان إذا ورد الشيء من القضاء، وليس في الكتاب، ولا في السنة، سمي «صوافي الأمراء»، فدفع إليهم الخ..
وروى هشام بن عروة عن أبيه: أنه ربما سئل عن الشيء فيقول: هذا من خالص السلطان.
وعن ابن هرمز: أدركت أهل المدينة، وما فيها الكتاب والسنة. والأمر ينزل، فينظر فيه السلطان([4]).
وزيد بن ثابت يكتب لمعاوية في الجد: ذلك مما لم يكن يقضي فيه إلا الأمراء([5]).
ثانياً: المسموح لهم بالفتوى من غير الأمراء:
وأما بالنسبة للأشخاص المسموح لهم بالفتوى: فإنما سمحوا بالفتوى بل وبالرواية أيضاً لأشخاص رأوا: أن لديهم من المؤهلات ما يكفي للاعتماد عليهم، ويطمئن لالتزامهم بالخط المعين، والمرسوم، بصورة مقبولة ومعقولة.
أما من وجدوه غير قادر على ذلك، فقد استبعدوه، حتى وإن كان منسجماً معهم في خطه السياسي، أو في طريقة تفكيره، وأسلوب حياته.
ونذكر من هؤلاء:
1 ـ عائشة:
فإننا نجد مروان بن الحكم يحاول التأكيد على الدور الأساس لأم المؤمنين عائشة في هذا المجال، فهو يقول: «كيف يُسأل أحد وفينا أزواج نبينا وأمهاتنا»([6]).
وإنما قلنا: إنه يقصد خصوص عائشة في كلامه هذا، لأنها هي التي كانت تتصدى للرواية والفتوى من بين أمهات المؤمنين بصورة رئيسية، وهي بنت الخليفة الأول أبي بكر، ومدللة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ولم يعرف عن أي من نساء النبي «صلى الله عليه وآله» سواها: أنهن تصدين للرواية والفتوى إلا في حالات قليلة جداً، وكانت أم سلمة تتصدى لرواية شيء عن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعجب أمثال مروان، ولا كان يروق لهم كثيراً.
وقد كانت عائشة تفتي على عهد عمر، وعثمان، وإلى أن ماتت.
وكان هذان الخليفتان يرسلان إليها فيسألانها عن السنن([7]).
وفي نص آخر: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهلم جراً، إلى أن ماتت([8]).
منافسون لعائشة:
ونجد من بعض الطموحين من الشباب الذين تهتم السلطة بإعطائهم دوراً من نوع ما، تشكيكاً بل ورفضاً لما تدعيه عائشة ومحبوها من علم واطلاع كامل على أحوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأوضاعه، فهذا زيد بن ثابت يقول: «نحن أعلم برسول الله من عائشة»([9]).
كما أن عائشة نفسها كانت لا ترتاح إذا رأت للآخرين دوراً فاعلاً في نطاق الفتوى والرواية، ولعل هذا هو ما يفسر لنا شكواها لابن أختها عروة بن الزبير من أبي هريرة الذي كان يحاول إثارتها بجلوسه إلى جانب حجرتها ليحدث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، قالت عائشة لعروة: ألا يعجبك أبو هريرة؟! جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يسمعني ذلك!! وكنت أُسَبِح، فقام قبل أن أقضي سُبحتي، لو جلس حتى أقضي سُبحتي لرددت عليه الخ..([10]).
2 ـ زيد بن ثابت:
وممن كان يسمح له بالفتوى أيضاً: زيد بن ثابت، وكان مترئساً بالمدينة في القضاء، والفتوى، والقراءة، والفرائض في عهد عمر، وعثمان([11]) ونرى أن ذلك يرجع إلى موقفه السلبي من علي أمير المؤمنين «عليه السلام»، ثم إلى دوره في تقوية سلطان الحكم القائم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب، حين الحديث عن تعلم زيد للغة العبرانية، بعد الحديث عن غزوة حمراء الأسد.
3 ـ عبد الرحمن بن عوف:
كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأبي بكر، وعمر، وعثمان بما سمع من النبي «صلى الله عليه وآله»([12]).
وموقف ابن عوف من علي في قضية الشورى، وصرفه الأمر عن علي «عليه السلام» إلى عثمان بطريقة ذكية ومدروسة، معروف، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.
4 ـ أبو موسى الأشعري:
وكان أبو موسى الأشعري ـ كما يقولون ـ لا يزال يفتي بما أمره النبي «صلى الله عليه وآله» في زمن أبي بكر، ثم في زمن عمر، فبينما هو قائم عند الحجر يفتي الناس بما أمره رسول الله «صلى الله عليه وآله»؛ إذ جاءه رجل فسارّه: أن لا تعجل بفتياك، فإن أمير المؤمنين قد أحدث في المناسك شيئاً.
فطلب أبو موسى حينئذ من الناس: أن يأتموا بعمر، ويتركوا ما كان يفتيهم به. ثم سأل الخليفة عن الأمر؛ فحققه له([13]).
فأبو موسى إذن، كان يرى: أن سنة عمر مقدمة على ما سنه الله ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى!!.
ولعله يستند في ذلك إلى ما رووه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» من أنه قال: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر!!.
أو أنه قال: إنه ما أبطأ عنه «صلى الله عليه وآله» الوحي إلا ظن أنه نزل في آل الخطاب!!.
من قبيل رواية: لو كان الله باعثاً نبياً بعدي لبعث عمر بن الخطاب([14]).
ورواية: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر([15]).
ورواية: لو لم أبعث لبعثت يا عمر([16]).
ورواية: لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب([17]).
ورواية: قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر([18]).
وغير ذلك مما اختلقته يد السياسة، وزينه لهم الحب الأعمى([19]).
5 ـ السماح لأبي هريرة بعد المنع:
قال أبو هريرة: «بلغ عمر حديثي، فأرسل إليَّ، فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بيت فلان؟
قال: قلت: نعم، وقد علمت لم تسألني عن ذلك!!.
قال: ولم سألتك؟
قلت: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال يومئذ: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
قال: أما إذن، فاذهب فحدث»([20]).
ومن المعلوم: أن عمر كان قد منع أبا هريرة من التحديث([21])، ولكنه لما بلغه حديثه، وأعجبه أرسل إليه، وأبلغه سماحه له برواية الحديث، كما ترى!!.
ولا بد لنا من أن نتساءل عن تلك الخصوصيات التي لو اشتمل عليها الحديث لأعجب الخليفة، ويكافئ من يأتي بها بالسماح بما هو ممنوع على من سواه، من جلة أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»!!
محاولة فاشلة لهم مع علي ×:
وقد بذلت محاولة لفرض الرأي في مجال الفتوى والعمل بالسنة على علي أمير المؤمنين «عليه السلام»، فوجدوا منه الموقف الحازم، والحاسم؛ فكان التراجع منهم والاعتذار.
فقد روى العياشي عن عبد الله بن علي الحلبي، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله «عليهما السلام»، قال: حج عمر أول سنة حج، وهو خليفة، فحج تلك السنة المهاجرون والأنصار وكان علي قد حج في تلك السنة بالحسن والحسين «عليهما السلام»، وبعبد الله بن جعفر، قال: فلما أحرم عبد الله لبس إزاراً ورداء ممشقين ـ مصبوغين بطين المشق ـ ثم أتى، فنظر إليه عمر وهو يلبي وعليه الإزار والرداء، وهو يسير إلى جنب علي «عليه السلام»، فقال عمر من خلفهم: ما هذه البدعة التي في الحرم؟
فالتفت إليه علي «عليه السلام»، فقال له: يا عمر، لا ينبغي لأحد أن يعلمنا السنة!
فقال عمر: صدقت يا أبا الحسن. لا والله، ما علمت أنكم هم([22]).
من له الفتوى بعد عهد الخلفاء الثلاثة:
وإذا استثنينا الفترة التي تولى فيها أمير المؤمنين «عليه السلام» شؤون المسلمين، فإن الذين تصدوا للفتوى بعد ذلك العهد ما كانوا من الشخصيات الطليعية في المجتمع الإسلامي، بل إن بعضهم لا يعد حتى من أهل الدرجة الثانية أو الثالثة.
وبعض هؤلاء أو كلهم لم يكن يسمح لهم بالفتوى في عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان.
يقول زياد بن ميناء: «.. كان ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع، وأبو واقد الليثي، وعبد الله بن بحينة، مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يفتون بالمدينة، ويحدثون عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا.
والذين صارت إليهم الفتوى منهم: ابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله»([23]).
حظر الرواية على ابن عمر، وابن عمرو:
ولا بد لنا هنا من تسجيل تحفظ على ما ذكره زياد بن ميناء بالنسبة لكل من عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
فأما بالنسبة إلى ابن عمر فقد رووا: أن معاوية قال له: «لئن بلغني أنك
أنت تقرأ
الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ج1
Исторические романыالصحيح من سيرة النبي الأعظم كتاب حول حياة النبي (ص) من تأليف السيد جعفر مرتضى العاملي المحقق اللبناني. يقع الكتاب في خمسة وثلاثين مجلداً، وقد استغرق تأليفه عشرين سنة. يتوزع الكتاب على عشرة أقسام سلط خلالها المؤلف الأضواء على جزئيات حياة الرسول (ص) و...