غرق النور في الظلام كان يصارع ليبقى ساطعا في بقعة السواد ذلك المنتشر في مكان أشبه بالخلاء لا وجود لنبض أو نفس بل هي جاثية على ركبتيها ترتدي ثياب بلون الكفن . هز بدنها صوت جهوري لا مصدر مرئي له:
- في الظلام تعمى البصيرة و قلبكِ غارق في سواد حانك.أنارت الدنيا ببركات يوم الجمعة و تعطرت البيوت بالمسك و الطيب تناغمت المسامع و انحسرت الأصوات بين يا حي ياقيوم و سبحانكَ لا أله إلا أنتَ.
أنذرتها الجدران بقدومه مرسلة لها صوت وقع أقدامه الثقيلة ، أسرعت ترتدي ثوبها ثم سحبت خمارها الوردي لتضعه خلف خصلات شعرها المبللة. وصلت في غرفة يتخذونها للطعام و الراحة بها ، دنت من المائدة ثم ألفت أنها قد وصلت متأخرة أخذت يده اليسرى و قبلت كفها و باطنها :
- صبحك الله بالخير أبي.
صوته كان غليظ و صارم و كان كلامه دائمًا ما يبدو و كأنه أمر للتنفيذ :
- يستحسن أن سبب تأخيركِ قيام الليل جورية .
انزعجت عندما تحركت ذاكرتها لليلة الماضية :
- كابوسٌ فظيع.
- لتقرأي لنا بعض من الآيات بعد الطعام.
- أن شاء الله ما قدرني عليه المولى.
تلاوتها العذبة تسلك المسامع بخفة و تنتشل الهموم برقة وهبها الله حنجرة مميزة عذبة كقطرات الندى ترتل كتاب الله بوقار و خشوع فلا سبيل للأفئدة إلا الخضوع للتأمل تأخذ من ملامح الزهور و خجل السماء في ليلة بدر مكتمل صغيرة العمر كبيرة العقل.٢
تخللت أصابعها بين سيقان خضراء طويلة تارة تتفرس في الياسمين و تارة أخرى تسقى الريحان ثم تتخلص من الجذور الوهنة و الأوراق الخشنة. تقطف سلال من الورد الطازج تحفظ رائحته بين ثنايا عقلها و تتعوذ من فتنته الفتاكة.لديها صندوق من المعدن تحتفظ فيه ببعض الخيوط و الإبرة أعتادت أن تتوسد مكان بجانب نافذة قريبة من الشمس و القمر. تجمع الألوان و الأحجام المناسبة من الورد في سلة و أخرى للريحان ثم تجهز الإبرة لتغرز عقد من الورد ناصع البياض كقلبها تتجلى مقدرة القادر في خلقتهما.
انعم الله عليها ببستان لا يذبل عرفت في الحي بعقود الزهور كل عروس تزينت بعقد من عندها، إبراهيم الثالث من أخوتها يجد تصريفًا لها في السوق بسبب صغر سنها و لكنها كانت فطينة الدماغ في التجارة . وجدت في صنع العقود سعادتها و كسبت بها سعادة غيرها ،هكذا كانت شغفها ورد حياتها ورد و هي وردة.
٣
دخل علها بوقع أقدام خفيفة سريعة و أنفاس بطيئة جلس بالقرب منها و رمى في سلة الريحان الفارغة تسع عملات ذهبية .
- السلام عليكم... هذه ثمن عقود الأمس.
ردت السلام عليه و هي تغرز آخر بتلة و ورقة ريحان ثم خطفت نظرة على العملات و قالت بشك عيناها ما زالت على العقد :- لقد أعطيتكِ عشرة لماذا تسع عملات فقط!
تصنع عدم المبالاة :
- هذه ثمن كل عقودكِ.
- أخي العقود تلك ثمنها عشر عملات ذهبية و خمس فضية.
صاح بها و هو يتمسك بحبل الكذب:
- أتتهميني بالكذب يا جورية ...أقسم لكِ أن هذه ثمن كل العقود.
زفرت بيأس و تنتهدت :
- سقوطكَ سيكون مؤلمًا و أنتَ محمل بهذه الذنوب ، امضي هداكَ الله.
أنت تقرأ
جورية
Mystery / Thrillerلم يكن نسيم عبيركِ هواء لطيفًا ، بل كان عاصفة هوجاء قلبت الموازين رأسًا على عقب