هنيئا لمن يزجره ربه عن الإتيان بالإثم قبل الوقوع في شرك عصيانه.

1K 42 27
                                    


أقبل الليل يرفرف بجناحيه في أناة، ثم راح يطارد اﻷضواء ينقض عليها ما إن لحق بها حتي استسلمت عن اخرها، وتقهقرت جميعا في خضوع مع وعود قاطعة بإعادة الكرة مرة أخرى.
فانطلق الليل في زهو يكسو اﻷرض بالعتمة، وراح يهرول في كل مكان، يمد بساط الظلام في القرى والمدن قدر استطاعته، الي أن حط رحاله فوق هذا المبني الكئيب.
منزل كبير من طابق واحد مكون من خمسة غرف متناثرة.
كانت تشع بهاءا بين الحين والآخر، إذا ما طلع البدر في إحداها ولكنه انطفأ فجأة وجفت أنهار اﻷمل عند أسواره، وأبت رائحة العطر اﻷنثوية أن تفوح منها ما دامت سيدة المنزل الصغيرة علي هذه الحال.
في إحدي غرف المنزل وأكبرها كان السيد جمال رب اﻷسرة ممددا علي فراشه الوثير، مستلقيا الي حائط السرير، واضعا إحدي قدميه فوق اﻷخري في استرخاء تام.
يحمل في يده اليمني سيجارة بنية اللون ملفوفة بعناية، كأنها من انتاج شركة متخصصة في إنتاج هذا النوع الممنوع تداوله.
وممسكا بيده اليسري ريموت التلفاز، قابضا عليه بكل قوة يتنقل بشراهة بين محطات الرقص الشرقي.
بينما توجهت عبير كعادتها في مثل هذا الوقت الي تلك الغرفة البعيدة، والتي لم تفارق المبيت فيها منذ اليوم الثالث عقب زواجهما
ثم تقدمت في خطي متلكئة تجر أذيال الخيبة، إلي أن جلست علي كرسي خشبي صغير، في زاوية الغرفة المظلمة.
وراحت في حزن تندب حظها العثر الذي أوقعها في شباك رجل لا يرقب فيها إلا ولا ذمة، ولا صلة رحم أو قرابة.
ترتدي جلبابا من الكتان رمادي اللون يميل الي السواد، لا تكاد تميزه من ظلمة المكان، كذلك اللون الذي يكتسي به الطائر الشهير مالك الحزين.
وحجابا قديما بني اللون تفلتت من أسفله بعضا من خصلات شعرها الناعم شديد الليونة، واسترسلت فوق صدرها في هدوء إلي أن توقفت مسيرتها علي جبين ابنتها الرضيعة، التي بلغت عامها اﻷول في تلك الليلة أو هكذا ظنت عبير.
وضعت أصبع السبابة في حلقها تتحسس مواضع اﻷسنان التي أخبرتها جارتها أنها سوف تنمو عند تمامها السنة، فما وجدت غير قطعة لحمة طرية، فتذكرت حديث الطبيب باﻷمس أن ابنتها لم تتجاوز الستة أشهر بعد.
يبدو أنها أخطأت في عدها، أو هكذا هي اﻷوقات السيئة، تطول مدتها رغم قصرها، وأحيانا نعدها مرتين.
مع مطلع كل فجر جديد كانت عبير تتحسس بأناملها شعر الرضيعة، وتحصي الليالي واﻷيام أملا في أن تشب الصغيرة حتي تداعبها كما كانت تداعب دميتها منذ وقت قريب،
أو تؤنس وحدتها بدلا من هذا الكائن اﻷهوج الذي يجثم فوق صدرها أثناء وجوده في المنزل، وكذلك في أوقات غيابه..!!
بدأت رضيعتها تغط في نوم عميق بعدما أرضعتها اﻷم حنانا وعطفا من ثديها، ولكنها استيقظت فزعة من نومها بمجرد أن سقطتا علي وجنتيها دمعتين شديدتين الحرارة كأنهما رصاصتين غاصتا في جلدها حتي استقرتا في قلبها الرقيق.
ثم واصلت الإبنة نحيبها دون انقطاع بعدما شق الدمع طريقه إليها دون مهل حتي بلغ جوف حلقها وتذوقت الصغيرة مرارة دموع أمها، التي استحوذ الحزن علي قلبها، وغلب حنانها، ثم بسط نفوذه علي كيانها، وبدأت شفتاها الرقيقتان تتحركان دون مهل، و مضت تتسائل في استحياء تحدث نفسها قائلة: أي ذنب اقترفته في حق نفسي ﻷحظى بهذا العقاب ؟
أي خطأ ذلك الذي يجلب إلي جواري من يسومني سوء العذاب ؟
أي جريمة أتيت بها دون علم حتي يكون نهايتها هذا البؤس اﻷبدي الشديد ؟!
وبينما هي تنوح في أسف، و تتسائل في خجل، والطفلة تبكي حال أمها، صاح زوجها بالنداء والوعيد من الغرفة اﻷخرى قائلا: أين أنت ياامرأة.. ٱحضري الآن فورا أيتها الحمقاء...!
ما إن سمعت عبير نداءه حتي ارتعدت فرائصها، وارتجف قلبها، وتلعثم لسانها، وأبت الحروف أن تخرج من بين شفتيها، فألقت برضيعتها فوق سريرها، وراحت تهرول كأنها تسابق الزمن الي أن مثلت بين يدي زوجها.
رجلا جاوز اﻷربعين من عمره، ضخم الجثة، منتفخ البطن، عريض المنكبين، كثير شحم الذراعين، كبير اﻷذنين، واسع العينين، قليل شعر الرأس في مقدمتها، حاجبيه كأنهما مثل غصن شوك مسحوبا أطرافه الي أعلي.
ممتلئ الخدين يتدليان الي اﻷسفل هربا من نظراته الساخطة، وكأن عظام الوجه قد عجزت أخيرا عن حملهما، ثم سمحت لهما بالانصراف بعيدا عنهما علي أمل باللحاق بهم.
راح البدين ينظر اليها متفحصا من أعلي الي أسفل.. فوجد أمامه فتاة عشرينية في ريعان شبابها، بارعة الجمال، فارعة الطول، ممتلئة الجسم دون سمنة، كأنها عود مسك ترقرق بالندي في ساعة الإشراق.
شفتاها لامعتين كزهرة اﻷقحوان الحمراء يتمني الرائي من فوره أن يلثمها دون أن يفكر في عاقبة اﻷمر من بعد جريمته، عيناها تتلأﻷن كالنجوم في المساء، حتي غلب ضياؤهما نور المصباح الذي ينعكس ضوءه علي جدران الغرفة.
خديها مثل ثمار الكرز الوردية اللون بدت عليهما بعض النقوشات القبيحة ﻷسنان زوجها، كأنها لوحة فنية مشوهة، تستشري نقوشها كل حين فوق جلدها كلما بهتت معالمها، أو أضمر الزمن نقوشها الغائرة، فعادة ما كان يقضمها هذا اﻷرعن في نهم شديد، ويأبي ألا يغادر وجنتيها دون أن يخط عليها موضع أنيابه.
أعاد زوجها النظر اليها مرة أخرى، فلمعت في عينيه نظرات التعجب مما رأت عيناه، وبدت علي وجهه ملامح الفخر عندما تذكر حديث أهل المدينة عن محاسن زوجته، وأيقن أنه كان علي صواب عندما أوقعها في شباكه رغما عنها.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 19, 2018 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

جبروت رجل.. لـ محمود زيدانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن