كانت واقفة هناك بين الجموع تتأمله بنظرات حزينة وهو يمسك بقبضة زوجته الجديدة ويسكنها ذراعه وكأنه يمنحها الحق في امتلاكه. تلك الذراع التي طالما تشبثت بها في مناسبات عديدة تباهي به الدنيا والسعادة تراقصها... نعم، كان زوجها وقبل أيام فقط أصبح طليقها!
كانت شفاهه ترسم ابتسامة رضًا وهو ينزل بها الدرجات وسط احتفال بهيج حضره جمع كبير من أقربائه وأصدقائه فضلاً عن أهل العروسة... ليقفا قرب الأشجار الخضراء خارج قاعة الزفاف من أجل صورة تذكارية كما طلب المصور.
بعيون أضحت زجاجية من تجمع الدموع فيها كانت تتأمله وهو يقبل عروسه على جبينها... لامست شفاهه ما فوق حاجبيها لتمنحها قبلة بطيئة وأضواء الكميرات تخطف تلك اللحظة من الزمن.
قبلته تلك حملت معها شغفا خفيا استطاعت أن تبصر بريقه متلألئا في عيونه، متهللا مع أسارير وجهه...
هل هي فقط من كانت قبلاته لها بلا شغف! باردة... بلا إحساس... كالثلج... مثل الصقيع!
تساقطت دمعتان من تلكم المقلتين الذابلتين مسحتهما بكبرياء، وأولته ظهرها لتترك المكان قبل أن يبصرها أحد...◇◇◇
في سيارة الأجرة وطوال الطريق كانت عيونها تنزف دموعا حارقة... دموعا تشق خديها وتحفر عليهما تفاصيل ألم مكبوت... ألم يغلي في كل قطرة تذرفها لتنزلق نزولا وتقع فوق صدر أعياه الشهيق..
مد إليها السائق العجوز بعلبة للمناديل الورقية وهو يقول بحزن: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار...
يظنها المسكين ترثي حبيبا غيبه الثرى ولم يكن يدري أنها كانت ترثي قلبها المفجوع وتئده حيا ينازع الموت حق الحياة!...
تنهدت بعمق وأغمضت عيونها بأسى وهي تطبق جفونها بشدة تعتصر آخر القطرات العالقة ما بين أهدابها الكحيلة.
لقد خطبها قبل سنة.. أو بالأحرى خطبها أهله وأقنعوه بها عروسا... وهو أبدى موافقته ولم يعبها!
هو شاب في بداية الثلاثينات من عمره محترم ولديه وظيفة تكسبه دخلا لابأس به. لم يكن ذلك الوسيم بامتياز ولكنه رجل مقبول الشكل لا يعيبه شيء، لم يكن من النوع الذي يكثر الكلام وبدى مثقفا وذكيا في كل كلمة موزونة ينطقها... ولم تكن هي تهتم لشيء بقدر ما سحرتها الكريزما التي يتمتع بها... شخصية قوية ورجولة واحترام...
تزوجا بعد أشهر معدودة من تعارفهما وسكنا بشقته الخاصة بحي راق من أحياء العاصمة. كان ينفق عليها وعلى المنزل بسخاء ويهتم بكل حاجياتها... هادئ في تعامله ولا يسيء إليها بأي كلمة، لكنها وبفطنة أنثى كانت تشعر ببروده... برود غير مبرر يجتاح مسام جلدها مثل الصقيع...
تلك العيون السوداء كانت تحمل كل شيء إلا الحب! لقد أعياها تأملهما بتساؤل، ولم تخطئ يوما إذ لمحت طيف غيمة حزن تكدر صفاء بريقهما، لكنها أبدا لم تعرف أي ريح حملتها إليه...
تشهد الصدق لم يهنها يوما ولم يجرحها بكلمة، لكن أنوثتها كانت تئن وجعا من ليلة تعانق فيها جسدا بلا روح... من قبلات لا شوق فيها ولا إحساس... رجل يمارس رجولته مثل أي واجب مدرسي يتحتم عليه إنجازه حتى لا يلومه أحد لتقصيره!