بداية

15.4K 473 116
                                    

وَمَنْ يَنْظُرْ بِعَيْنِ القَلْبِ يُبْصِرْ
جَمَالاً لَيْسَ تُبْصِرُهُ العُيُوْنُ.
** مقتبس **

"حلاتِك" تلك الكلمة البسيطة التي تصِفُ جمال المرء وحدها ما منحتني الثبات في هذا العالم الظالم؛ فطالما رددتها والدتي في طفولتي ومنذها وهي تنسابُ الى مسمعي في كُلّ لحظة قبل خلودي الى النوم.

"انتِ جميلة، وبإمكان الجمال التغلُّب على كُلّ هذا القُبح المكتظ في العالم" أُردد هذه العبارة كُلّ يوم كدعاء ما قبل النوم، الى ان اصبحت هذه الكلمات كجدارًا منيعًا اختبأت خلفه الفتاة الساذجة ذات القلب المُرهف، لم اكُن يومًا فتاةً مُتطلّبة او بالأصح لم استطع ان أكُن كذلك، فالفقر الذي وجدتُ نفسي فيه منذُ ولادتي بالكاد يسمحُ لي بالتنفُّس وفي كثيرٍ من الأحيان ارى ان حياتنا نحنُ المُعدمين خصمًا على حياة الاغنياء، وفلسفة وجودنا غريبة، فما الذي سنمنحهُ للكون ونحن بالكاد نسدُّ جوعنا؟! وبالرغم من إدراكي ان افكاري هذه مغلوطة الا انني وللأسف لم استطع التخلّي عنها، اُظهِرُ تلك الفتاة المُتزنة فكريًا وأُخبئُ افكاري الخاصّة اسفل وسادتي العتيقة.

دعوني اقِفُ قليلًا لتعريفكُم على شخصي البائس، ذات ليلةٍ مُمطِرة غرق فيها منزلنا كالعادة وبدأت جدرانه الطينية بالاهتزاز كعجوزٍ تتوكأُ عصاةً رخوة شعرت والدتي بآلام الطلق، وقد كُنتُ حينها ادفعُ جُدران رحمها المُهترئ بحماس ظنًّا منّي انني سأخرُجُ لأوضع في فراشٍ ورديّ ناعم وحظيّ العاثر يضحكُ على احلامي البريئة.

اخذت والدتي المسكينة تتألم طوال تلك الليلة الطويلة بسبب المخاض والبرد والخوف من ان تسقُط تلك الغُرفة الصغيرة فوق رأسها، مرّت الدقائق والساعات ببُطءٍ شديد الى ان حلّت اولى لحظات الصباح لأخرُج اخيرًا للحياة وقد قصّت القابلة آخر ما قد يربطني بوالدتي "ذلك الحبل السريّ" قصّتهُ بمقصها الصدئ لأستقبل الحياة بعويلٍ حزين لإدراكي لذلك العالم البائس الذي وجِدتُ فيه، حتى انّ صدر أُمّي لم يكن دافئًا كما تخيلت، فقد كانت ترتجفُ من البرد واولى وجبات حياتي منها كانت حليبًا صاقعًا كمشروبٍ باردٍ انصبّ فجأةً الى حلقي.

آهٍ من خيالي الواسع، ابدوا دراميّةً للغاية وانا اصفُ تلك اللحظات ولكن في الحقيقة هذا ما حدث، كبرتُ قليلًا وادركتُ انّ لي اخوان اكبرهما حسن، ربما يكبرني بسبعة او ثمانية اعوام، كان طفلًا لطيفًا احبّني للغاية وهدهدني كثيرًا عندما كانت والدتي تغيب للعمل في احد المدارس، اما الأصغر والذي يبلغ على حسب علمي خمسة اعوام حينها كان ايمن الكريه، لم احبّه ابدًا واشعُر دائمًا بأنّهُ يكرهني للغاية، فتىً مُدلل وخبيث منذ طفولتنا، كان يضربني دائمًا وعندما تأتي والدتي لتتفقدنا يُمثّلُ انهُ يلاعبني، ربما يكرهُ استحواذي على مكانته كأصغر طفل في المنزل.

على العموم لم تكُن طفولتي جميلة ولكن لم تكُن بائسة الى ذلك الحد، فالحيّ الذي نقطنه يغرقُ بالفقر والفقراء، ووالدي الحبيب كان بياع خُضار في السوق القريب بينما والدتي تصنعُ افطار الصغار في المدرسة القريبة منّا وهذا كان كفيلًا بتأمين حياة مناسبة لنا، بعد ثلاثة اعوام من مولدي جائت الى الحياة أُختي الوحيدة ماريا التي أسمتها أُمي على اسم المدرسة الحسناء التي جائت الى المدرسة حديثًا وكما تقتضي العادات جلبت المعلمة ماريا هدية لسميّتها الصغيرة، جلبت لها ثياب ملونة لم ترتديها طفلةً بحيّنا من قبل اضافة الى حلق ذهبي صغير كان ثمنهُ ثروةً بالنسبة لنا؛ فماريا إبنة احد تُجار الذهب المشاهير إضافة لأن زوجها موظف حكومي لهُ مُرتب عالٍ للغاية وقد امتلك السيارة الوحيدة بالحارة إضافة الى المنزل الاجمل على الاطلاق.

بيداءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن