توطئة

841 23 36
                                    

         سلطان الظلام يبدو فتىً ماجداً
                ( شكسبير )

             نيو انغلند 1835

كان أليكس ستافورد كما قالت عنه ماما تماماً . طويل القامة اسمر البشرة لم تر سارة اجمل منه . حتى انه في ثياب ركوب الخيل المغبرة وشعره مبلول بالعرق بدا شبيهاً بالأمراء في القصص التي قراتها ماما . وقد خفق قلب سارة بفرح غامر وفخر نادر . فليس بين الآباء الآخرين الذين شاهدتهم في الكنيسة من يشبهه .
نظر اليها بعينيه القاتمتين فارتقص قلبها . كانت لابسة أفضل فستان ازرق لديها ومئزراً وقد ضفرت ماما شعرها وربطته بشريطتين قرنفلية وزرقاء .
هل اعجب منظرها بابا ؟ قالت ماما ان الأزرق هو لونه المفضل ولكن لماذا لم يبتسم ؟ أهي مملة ؟ كذلك قالت  ان عليها ان تقف مستقيمة وساكنة وتتصرف كأنها سيدة . وقالت ان ذلك سيعجبه . الا انه لم يبدو مسروراً قط .
بادرت ماما قائلة بصوت بدا غريباً ومشدوداً كما لو كانت تختنق :" اليست جميلة يا أليكس ؟ اليست اجمل بنت صغيرة رايتها يوماً ؟"
ولاحظت ساره العبوس بادياً في عيني بابا السوداوين . لقد بدا غاضباً كما تبدو ماما أحياناً عندما تكثر سارة من الكلام أو تسال أسئلة فوق الحد .

وتكلمت ماما بسرعة. بسرعة زائدة . أكانت خائفة ؟ ولكن لماذا ؟ قالت :" دقائق قليلة فقط . هذا كل ما اطلبه يا أليكس . رجاءاً . ذلك سيعني لها الكثير ."

حدق أليكس ستافورد الى سارة من فوق . كان فمه مزموماً فيما راح يتفحصها صامتاً وهي واقفة بلا حراك قدر استطاعتها . لقد تأملت صورتها في المرأة صباحاً اليوم وهي تعرف ماذا سيراه . كان لها ذقن ابيها وأنفه وشعر أمها الأشقر وبشرتها البيضاء . وكانت عيناها أيضاً كعيني أمها مع انهما كانتا اكثر زرقةً . وقد ارادت ان يعتبرها بابا جميلة فحدقت اليه رافعةً رأسها بأمل . غير ان نظرات عينيه لم تكن مطمئنة .
" هل اخترت اللون الأزرق قصداً يا مي ؟...... ألانه يبرز لون عينيها ؟"
اجفلت سارة من كلمات بابا هذه التي تميزت بالبرودة والغضب ولم تستطع تحمل الأمر فنظرت الى أمها وقد غاص قلبها فإذا بوجهها ينضح ألماً .
ألقى أليكس نظرة على البهو وتساءل :" أين كليو ؟"
فقالت ماما بهدوء مبقية رأسها عالياً :" ليست هنا لقد أعطيتها اليوم عطلة ."
بدت عينا بابا اكثر قتاماً بعد وهو يقول :" صحيح ؟ من شأن ذلك ان يخلي لك الساحة . اليس كذلك عزيزتي ؟"
جمدت ماما قليلاً ثم عضت شفتها واومأت بعينيها الى سارة . ترى ما الخطب ؟ ساءلت سارة نفسها بحزن . ألم يكن باب مسروراً برؤيتها ؟ لقد تشوقت كثيراً ان تقابله أخيراً ولو هنيهة ......

وجهت ماما كلامها الى بابا :" ماذا تريد مني ان افعل ؟ "
فظلت ساره صامتة الا انها لم تفقد الأمل .
" ابعثيها وراء كليو فهي تعرف أين تجدها على ما اعتقد "
فتورد خدا ماما وقالت :" ماذا تقصد يا أليكس ؟ اني استقبل غيرك في غيابك ؟"
ضاعت بسمه سارة وسط ارتباكها . كانا يتكلمان بمنتهى البرودة احدهما مع الآخر . ولم ينظر اليها أي منهما . هل نسيا انها هناك ؟ ما المشكلة ؟ لقد سيطر الذهول على ماما فلماذا غضب بابا بسبب غياب كليو عن البيت ؟
نظرت سارة الى كليهما وقد عضعضت شفتيها . ثم اقتربت وشدت معطف ابيها ." بابا ......"
" لاتناديني بهذا ."
طرفت عيناها خائفة ومرتبكة من تصرفه . لقد كان هو أباها . هكذا قالت ماما . حتى انه كان يحضر لها الهدايا كلما جاء . وماما أعطتها إياها . لعله غضبان لانها لم تشكره قط ." اود ان اشكرك على الهدايا التي ........"
قالت ماما فوراً :" سكوتاً يا سارة . ليس الان حبيبتي !"
فرمق بابا ماما بنظرة راعدة :" دعيها تتكلم . اليس هذا ما اردته ؟ لماذا تسكتينها الان يا مي ؟"
تقدمت ماما اكثر ووضعت يدها على كتف سارة وكان في وسع سارة ان تحس أصابع أمها ترتجف . الا ان بابا انحنى صوبها مبتسماً وقال :" أيةُ هدايا ؟"
بدا وسيماً جداً كما قالت ماما تماماً . وشعرت بالفخر لان لها أباً مثله
" قولي لي يا صغيرة !"

فقالت سارة شاعرةً بالدفء والفخار حيال عطفه واهتمامه :" تعجبني دائماً السكاكر التي تجلبها لي . هي طيبة جداً . ولكن اكثر الكل تعجبني الوزة البلورية ؟"
ابتسمت من جديد وهي تتألق فرحاً لاصغاء بابا اليها بكل انتباه . بل انه ابتسم أيضاً وان لم تتاكد سارة من إعجابها بابتسامته . فقد كانت ضيقة ومشدودة .
ثم اعتدل وقال ناظراً الى ماما :" صحيح ؟ يسرني جداً ان اعلم كم تعني هداياي ."
فرفعت سارة نظرها الى ابيها مبتهجة باستحسانه وقالت :" وضعتها على حافة شباكي . الشمس تبعث أشعتها من خلالها وتجعل الألوان تتراقص على الحائط . أتحب ان تأتي معي لترى ؟"
ثم أمسكت بيده . لكنه انتفض مبتعداً فطرفت عيناها وقد شعرت بالألم غير فاهمة شيئاً .
عضت ماما شفتها ومدت يدها نحو بابا ثم توقفت فجاةً . وظهر عليها الخوف من جديد . وقلبت سارة نظرها بين والديها عسى ان تفهم . فيم اخطأت ؟ ألم يسر بابا انها أعجبت بهداياه ؟
" هكذا إذاً تعطين البنت هداياي ! جيد ان اعرف قيمتها في نظرك ."
عضت سارة شفتها حيال البرودة في صوت بابا . ولكن قبل ان يتاح لها ان تتكلم مست ماما كتفها برفق وقالت :" حبيبتي كوني بنتاً عاقلة واخرجي خارجاً والعبي الان ."
رفعت سارة نظرها متضايقة . هل اخطات في اَي تصرف ؟ " الا يمكنني ان أبقى ؟ سأكون هادئة جداً ."
ولم يبدو ان ماما تقدر ان تقول اكثر من ذلك . فقد اغرورقت عيناها شاخصة الى بابا .

انحنى أليكس نحو سارة وقال بهدوء :" اريد منك ان تخرجي خارجاً وتلعبي . اود ان اتحدث مع امك وحدنا ."
ثم ابتسم وربت خدها .
ابتسمت سارة مفتونةً تماماً . لقد لمسها بابا ولم يكن غاضباً قط . انه يحبها ! تماماً كما قالت ماما .
" هل يمكن ان ارجع عندما تنهيان حديثكما ؟"
فاعتدل بابا بتصلب وقال :" ستخرج امك وتاتي بك عندما تصير جاهزة . والآن اركضي الى الخارج كما قلت لك ."
" نعم بابا " ودت سارة لو تبقى ولكنها ارادت ان تسر أباها اكثر . فخرجت من غرفة الاستقبال وسارعت الخطو عبر المطبخ نحو الباب الخلفي . ثم قطفت شيئاً من زهر الاقحوان من مرجة الحديقة بقرب الباب وبعدئذ توجهت الى تعريشة الورد . وأخذت تنتف وريقات الزهر قائلة :" يحبني ...... لا يحبني .... يحبني ..... لا يحبني ......"
وسكتت اذ دارت حول الزاوية . لم ترد ان تزعج ماما وبابا . ارادت فقط أو تكون قريبة منهما .
راحت تحلم راضيةً . وربما يحملها بابا على كتفيه . وتساءلت هل يصحبها في جولة على ظهر حصانه الأسود الكبير . سيكون عليها طبعاً ان تغير فستانها . فهو لن يريد ان توسخه . وودت لو سمح لها بالجلوس في حضنه وهو يحدث ماما . كان من شأن ذلك ان يروقها كثيراً وما كانت لتزعج بابا طبعاً .

كان شباك غرفة غرفة الاستقبال مفتوحاً فاستطاعت ان تسمع صوتيهما . كان يروق ماما ان تعبق رائحة الزهور في الردهة . وارادت سارة ان تقعد وتصغي الى حديث أبويها . بتلك الطريقة تعرف تماماً متى يريد بابا ان ترجع الى الداخل . وإذا قعدت صامتة فلن تزعجهما وكل ماينبغي ان تفعله ماما ان تطل برأسها وتناديها باسمها .

" ماذا كان علي ان اعمل يا أليكس ؟ لم تقض معها قط ولو دقيقةً واحدة . ماذا كان علي ان أقول لها ؟ ان أباها لا يعنيه امرها ؟ انه يتمنى لو لم تولد أصلاً ؟"

انفرجت شفتا سارة . أنكر الأمر يا بابا ، أنكره !

🌺🌺الحب المحرر 🌺🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن