3

744 15 6
                                    

وكان هذا سيحدث لو لا ما أصاب والدتي من سوء حظٍ بمقابلة عمك وزواجها منه . ويعلم الله اني توقعت أن يكون لها بعض الإدراك بعد كل ما لاقته من أبي " صمتت فجأة , وعضت شفتيها نادمة على زلة لسانها , ثم أكملت في سرعة :" ولكن مامن أحدٍ إلا وقد توقع أن تكون أكثر تعاسة في المرة الثانية , فوالدي على اٌل ترك لها شيئاً ما , وكل ما فعله عمك هو أن جردها منه " .
وبعد أن انتهت من هذا السيل من الكلمات , كانت تنتفض بمعنى الكلمة من الانفعال , و أخفت يديها تحت المائدة على رجليها , قم أخذت نفسا عميقا وخفضت رأسها , مدركةً تماما حملقته فيها . ولم يتبادلا حديثاً فترة طويلة , كان صمتاً يسبب الصمم , ثم تكلم ماثيو في هدوء تام :" لقد تولد عندي انطباع أنكِ لم تحبي والدكِ " . وشعرت بالذنب لكلماته , هل كشفت فعلا أكثر مما ينبغي ؟ وردت بحرص غير ناظرة إليه :
" كرجل أعمال أُعجبت به جدا , لقد تعلمت كل ماتعلمته من دنيا الأعمال على يديه أيضا , كما تعلمت كيف يتأتى للمرء أن يكون ذا قلب قاس غير مهتم بالآخرين ". لقد كان سوء طباعه ولسانه القاسي يرعبانها وهي طفلة , ولكن مع الأيام تحول الرعب إلى إزدراء باد وحقيقي , ونظرإلى ماثيو قائلة :
" ولكني لم أحبه كا إنسان " .
" ولكنكِ كنتِ لصيقة بأمكِ ".
" لصيقة كما يجب أن تكون الإبنة " . ألم تكن هي أكثر من ابنة ؟ كانت حليفة ومواسية وصديقة لها . وتحاشت العينين العسليتين وهي تقول :" بقد كان هذا ولا شك قبل أن تقابل عمك . إذ لم نكن أبدا قريبتين من بعضنا بعد ذلك " .
وقطب حاجبيه الداكنين وهو يسأل :" لماذا ؟".
وضحكت ساخرة :" لماذا ؟! لأني كنتُ ضد هذا الزواج من البداية . إذ كونها تواتيها الفرصة لكي تفلت من براثن إنسان أناني ومسيطر ماتلبث أن تلقي بنفسها على التو في يد إنسان آخر بدا لي ذلك نوعا من الماشوسية المحملة بالجنون " ثم صمتت برهة لتتذكر :
" ولكن وا أسفاه لقد كانت أمي من طراز النساء اللواتي لا يستطعن العيش بدون رجل ".
وقفز شيء قريب من السرور الى العينين العسليتين , وتأملهما ماثيو لحظة ثم رشف على مهل من الشراب قائلا :" على العكس من ابنتها حسب ما هو ظاهر ".
وحدجته غير مرتبكة قائلة :" ليست كل امرأة محتاجة الى رجل يدلها على مايجب عليها ان تفعله . فيسرني أن أقول : إن بع ا منا يستطعن تدبير أمورهن دون حاجة لرجل ".
" ألف مبروك ". لم يكن ذلك تهنئة منه , بل توبيخا ساخرا .
فردت عليه :" أظن أن غرورك يجعل من الصعب عليك أن تتصور أن جنسك يمكن الاستغناء عنه ".
لم يرد إلا بابتسامة رضا تبعث على الجنون ثم قال :" أعتقد يا آنسة جارلاند أنكِ تصدرين أحكاما على أمورٍ لا تعلمين منها شيئاً , وكما يقول المثل : لايستطيع المرء ان يفقد شيئا لم عليه أصلا "
ونظر في عينيها قائلا :" ألستُ على حق ؟".
وتوردت وجنتاها ولكن لم تدر عينيها وقالت :" وليس على المرء ان يقوم بمغامرة في الصحراء ليعلم انها تحتويي على رمال ".وابتسمت مسرورة لما هي عليه من حكمة .
ولكن الكلمة الأخيرة كانت له اذ قال :" قد يكون هناك بترول تحت الرمال , ثروات تفوق الخيال , وغروب رائع وراء الكثبان , إنه من قبيل قصر النظر فقط يا آنسة جارلاند ان لا يرى سوى الرمال ".
وخفت حدة الاتجاه الفلسفي للحديث مع قدوم الصنف الثاني .إذ يبدو ان جاذبية شريحة اللخم المحمر المتبلة قد حولت انتباه ماثيو إليها بينما انصرفت أوليفيا الى دجاجها الصغير الذي وجدته بلا طعم .
وكانت تحس بان العينين العسليتين تراقبانها من حين الى آخر , وبدا لها انها تلمح بين الفينة والفينة ومضة من تلك الصورة الجادة , ثم كان يدير بصره فجاة ليبتسم تلك الابتسامة الساخرة ابتس تجعلها تشعر بالتوتر والاضطراب يعاودانها . لم يكن هناك أعماق مختبئة في ماثيو جوردان , فهو بالضبط ذلك المغرور المزهو بنفسه الذي يدل عليه مظهره .
وسألها النادل وهو يرفع الأطباق :" هل تتفضل السيدة وتأمر بالحلو ؟" .
فهزت رأسها ونظرت بحدة الى ساعتها قائلة :" لا , قهوة لي فقط مع الشكر ". لقد نالت بالفعل مايكفيها من المهزلة وأكثر فلا داعي للإطالة فيها . ولكن رفيقها كان من الواضح انه ليس في عجلة من أمره , فعلى الرغم من أن إشارتها غير خافية الدلالة , فإنه طلب لنفسه سلطة فواكه ثم مشروبا بعدها .
" إني ألاحظ أن زهدكِ يمتد إلى كل مجالات حياتكِ ". قال لها هذهِ الملاحظة وهو يضع كميات وافرة من الكريمة على سلطة الفواكه , بينما هي تتململ مع فنجان قهوتها . وردت عليه :" و إني ألاحظ أنها تمتد إلى ما لايعنيك " .
ونظر إليها في دهاء قائلا :" أنا أعتقد أن هناك متعا في الحياة يجب التمتع بها حتى الثمالة ".
" بكل تأكيد ". وكانت صورة سلين الشقراء قد ومضت بها في ذهنها .
" أرجوك لا تجعلني أحرمك من أي منها , فأنا أعتقد أن لديك مايشغلك تماما الليلة ".
ورد عليها بابتسامة فاهما مغزى ما تقول :" لا تقلقي آنسة جارلاند , إنكِ لا تحرمينني من أي شيء أتوق إليه , فضلا عن أني لستُ متعجلا فأنا في غاية المتعة بالفعل " .
بالتأكيد ! على حسابي ! هذا ماجال في خاطرها بمرارة , فإن ما يستمتع به حقا هو أنها تكره كل لحظة من هذه المحنة . وانتظرت وهي تزم شفتيها بينما يزيح النادل أخيرا أطباق الحلوى , ثم يعود بعد برهة بفنجان قهوة جديد وزجادة مشروب بارد لِماثيو .
و رفع كأسه وهو يديره على مهل ليدفئه قبل أن يشرب , وعيناه مسلطتان على الشكل المتخشب أمامه , بينما تداعب شفتيها ابتسامة خفيفة .
" حسنا يا آنسة جارلاند ماذا ترين في عرضي الأخير ؟ ".
فردت :" أراه غير معقول كغيره ".
وأخذ يشرب على مهل :" هل تريدين حقا استعادة شركتكم ؟".
أحقاً يسأل ؟ .
" لن أرضى بأقل من ذلك ! ".
وواصل الشرب , ثم تراجع قليلا في مجلسه ونظر اليها من خلال جفنين منسدلين.
" لعلنا , رغم كل شيء , نجد طريقا ما ".
وقفز قلب أوليفيا بين حنايا صدرها , وومض فجأة تفاؤل داخلي , ومالت تجاهه وعيناها الزرقاوان تبرقان . ألم تكن عالمة أن في جعبته مايخبئه , وسألته في التو :" قل لي كيف ؟ ".
و أخذ جرعة أخرى من الشراب , ثم رمقها من فوق كأسه :" كما سبق وبينت لكِ فإن شرط عمي جوليوس محكم . فلا يحق إلا لأفراد العائلة تملك أي جزء من الشركة , كما أن تعريف أفراد العائلة محدد بكل دقة .
و أومأت نافذة الصبر :" أعلم ذلك ".
يبدو أنه يدور حول الموضوع ويتعمد تأخير لحظة ذكر الحقيقة :" إن التعريف يضم الإخوة والأخوات و أبنائهما وأبناء العم .. إلخ ".
ثم صمت برهة وكانت تنتظر :" وكذا الزوجات ".
" الزوجات ؟ ". وحملت فيه غير فاهمة ثم كررت :" تقول الزوجات ؟ ".
وواصل النظر إليها من فوق حافة كأسه وكانت تعبيرات عينيه غامضة بصورة غريبة , ثم قال موضحا :" لو كنتِ زوجتي لدخلتِ ضمن ذلك الشرط ".
ولم يكن لِ أوليفيا إلا أن تحملق فيه عدة دقائق , جافلة تماما , وغمرها شعور غريب بالرعب وعدم التصديق ثم قالت أخيرا :
" ولكني لستُ زوجتك ! ".
وأطلقت ضحكة قصيرة مرتبكة , متعجبة أهي تخيلات الشراب لعبت برأسه , أم حقيقة قال مافهمته , أم ان تخيلاتها تخدعها ؟ وابتلعت ريقها الجاف و قالت : "مامعنى هذا ؟ ".
وضع كأسه جانبا وبدأ يشرح في بطء وهدوء بينما هي تحس كما لو كان العالم من حولها قد فقد عقله :
" عزيزتي الآنسة جارلاند , إن هذا يعني أني على استعداد أن أعيد لكِ الشركة على شرط واحد " ثم بعد برهة ...
قال : " على شرط أن تقبلي الزواج مني " .

صفقة زواج حيث تعيش القصص. اكتشف الآن