غربة أم (قصة قصيرة)

24 0 0
                                    

غربة أم
مها مطاوع
على أحد أرصفة القطارات تقف ساندرا الفتاة الفرنسية تنتظر قطارها بعينين زرقاوتين ذابلتين من  كثرة البكاء ترفع عن وجهها شعرها الذهبي المنسدل بلا تهذيب وما أن اقترب القطار حتى أسرعت تحاول أن تلقي بنفسها تحته ولكنها لم تنجح لأن هناك من أنقذها .إنه راكيش الهندي المغترب تلقفها بين ذراعيه الفتيتين وجذبها بقوة وسألها بفرنسية ركيكة : هل انت بخير؟
لترد ساندرا بحزن ودموعها تغرق وجهها : لماذا فعلت هذا ؟ حتى الانتحار فشلت به؟ يا إلهي.
بعد تفرق المتجمعون حولهما حاول راكيش ان يخفف من وطأة لحدث : لماذا فعلت ذلك وأنت في مقتبل العمر وجمالك يسلب العقل ؟
ساندرا : لمن أعيش وقد فقدت من تعيش من أجله كل أم ، فقدت ولدي الصغير فلا سبب لحياتي الآن
تنهمر دموعها بشدة تتلألأ على بشرتها البيضاء فيربت على كتفها برقة يهدئها
تحكي بلا طلب منه كمن تحين الفرصة ليفرغ مكنونات صدره : كان في الخامسة من عمره هجرنا ابوه قبل ولادته فأصبح دنياي كلها ،وضعت فيه كل جهدي راغبة في رؤيته رجلا يتحمل المسئولية محبا لمجتمعه مفيدا لبلده ولكن لم يمنحني القدر هذه الفرصة اختطفه مني بشكل آلم روحي ، مرضه كان يدس الملح في جروحي ألمه يحل بقلي قبل بدنه، تمنيت من الله ان يشفيه ليعوضني عن غدر أبيه ولكن سبقني إلى الله بلا رجعة .
توقفت عن الكلام في نوبة من البكاء لم يفعل خلالها راكيش الكثير فقط يقول : اهدئي ، حاولي ان تهدئي
مر وقت تيقن فيه راكيش أن قطاره قد تركه وذهب أثناء استماعه إلى ساندرا فقرر أن يطلب منها بعد ان سكنت بعض الشيء : ما رأيك ان تستمعي لمأساتي كما استمعت لخاصتك ولكن أثناء سيرنا في الخارج عل الهواء يصلح ما افسده القدر ؟
وافقت ساندرا بلا حديث فقط بإيماءة من رأسها قامت من مكانها متوجهة إلى الخارج فتبعها راكيش في هدوء.
راكيش يحكي : أنا هندي من الجنوب تحديدا من منطقة تدعى بنجاب ، نعيش في بيوت كبيرة تخص الجد والجدة كعائلات ، نحترم كبارنا بشدة فلا نرفض لهم طلبا ولا نرد لهم رغبة . أراد الجميع ان أتزوج ابنة عمي كعادة عائلتنا وكنت لا أزال شابا يافعا لا أعرف من الدنيا الكثير علاوة على أني كنت قد تربيت معها فوافقت حتى أحظى ببركات أبي وأمي . تزوجنا سريعا وتعلقت بها بشدة ظللنا لسنوات بلا أطفال كنت في كل يوم أزداد تعلقا بها وحبا لها واحتراما لطباعها التي تشبه الملائكة فلا صوت يعلو ولا طلب يرفض ولا ابتسامة تفارق ثغرها الجميل .بعد بضع سنوات علمت بحملها وكانت متعبة جدا خلاله وكثرت زياراتها للأطباء فيه حتى حان موعد الولادة وقد كانت متعسرة أثرت على صحتها العامة بشكل سيء للغاية أصبحت ضعيفة مريضة دائما ولكن بلا تذمر او قلق ، لا تشكو مرضها لاحد بل لا تفارقها الابتسامة مادامت متواجدة مع اي فرد من أفراد العائلة ، كنت كثيرا ما اسمع أنينها عندما تكون وحيدة  ورغم كل هذا الألم كانت تهتم بصغيرتنا على أتم وجه ولكن يشاء القدر أن تترك صغيرتنا وهي لم تشبع من حنانها بعد ، ماتت وكانت صغيرتنا في عامها الرابع و لم نخبرها سوى بأن أمها قد سافرت لبعض الفحوص وها هي الآن في السابعة ولا تزال تسأل عنها يوميا لنكرر نفس للإجابة : ربما تعود قريبا .بعد وفاتها لم أستطع تحمل الحياة في منزل يحمل آثار ضحكاتها في كل أركانه وآثار أخلاقها مع كل إنسان بل وحيوان وطير فيه قررت ان اسافر إلى مكان بعيد لا اعرف فيه أحدا لأبدأ من جديد وقد كان ،ها أنا هنا في مكان غريب مع سيدة غريبة نفتح قلبينا بلا معرفة سابقة وبلا مبرر واضح
كانت ساندرا تستمع إليه باهتمام بالغ حتى كانت دموعها التي لم يطل جفافها تنهمر مرة أخرى في حين كان هو يحكي حكايته ناظرا إلى السماء كمن يتمنى ان يرى زوجته الراحلة في إحدى النجمات
فاجأته ساندرا : ما اسم ابنتك ؟
راكيش : اسمها شانتي
ساندرا : وماذا يعني اسمها ؟
راكيش : يعني الهدوء والسلام
ساندرا : اكاد اشعر بحزنها واتمنى أن تسعد في حياتها
راكيش : ما رأيك ان نتقابل مرة أخرى وأحضرها معي ،فقد يجد كل منا سلواه فهي قد تجد فيك أما لها وقد تعالج هي جرح ابنك الغائر
ساندرا : لا امانع أبدا  ،موافقة تماما على طلبك وأتمنى تحقيقه في أقرب فرصة
راكيش : ولكن عديني اولا ألا تكرري محاولة انتحارك مرة أخرى
ساندرا بابتسامة باهتة : أعدك بذلك
افترقا وقد تبادلا أرقام هواتفهما الخلوية على وعد باللقاء في أقرب فرصة
عند وصول راكيش إلى منزله وبعد احتضانه لابنته طويلا لاحظت ابنته شروده
شانتي :  لماذا انت شارد يا ابي؟
راكيش : لا تهتمي يا عزيزتي ، انا فقط شارد فيك وفي مستقبلك .انا فقط أتمنى لك حياة سعيدة
شانتي بحزن : ولكني اتمنى أن افرح بوجود أمي إلى جوارنا
يصمت راكيش بعيون دامعة ويقرر مسارعة الاتصال بساندرا في الغد . وفي اليوم التالي انشغل راكيش بأعماله ولم يتذكر محادثة ساندرا وظل على هذا المنوال لعدة ايام حتى فوجئ برقمها يرسل إليه رسالة من كلمتين : أين الوعد؟
هاتفها راكيش في الحال معتذرا عن التأخير متعللا بانشغاله بعمله ثم...
راكيش: ما رأيك ان نتناول طعام الغداء اليوم سويا في المطعم الهندي ؟
ساندرا بحماس فاتر : حسنا ، لم لا فانا لم أجرب الطعام الهندي من قبل
راكيش : اضمن لك الاستمتاع به وسأصطحب شانتي من مدرستها إلى هناك
وفي المطعم بعد ساعات قليلة ...
راكيش : هذه صديقتي الجديدة يا شانتي فلتسلمي عليها
شانتي : أهلا بك ايتها الخالة
ساندرا : كم انت جميلة أيتها الصغيرة
احتضنتها ساندرا بشدة ، فرغم اختلاف ملامحها تماما عن ابنها المتوفى إلا انها شعرت بمشاعر جارفة نحوها والغريب ان الفتاة طلبت منها طلبا
شانتي : هل من الممكن ان أناديكي امي ؟
هنا انهمرت دموع ساندرا بلا توقف فطفقت شانتي تكفكفها وتقول : لا تبك يا امي ، انا هنا بجوارك
مر وقت الطعام بسعادة وقرب غريب لم يكن متوقعا شجع راكيش على طلب شيء من ساندرا ..
راميش : ارى انكما منسجمتين محبتين ،لم لا نشبع مشاعركما ونجمعكما مع في منزل واحد
شانتي : هل يمكن ذلك يا أبي .
راكيش : في حال موافقة امك ساندرا ممكن جدا
فهمت ساندرا مرامه ووافقت من فورها فكل منهما وحيد يفتقد الونس في حياته وقد وجده في الآخر
تزوجا وأصبح كل منهم دنيا للآخر ، يبحث كلاهما عن اسباب سعادة شانتي  باهتمام شاكرين الله على تعويضهما ببعض في نهاية مأساتهما الأليمة

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: May 01, 2019 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

غربة أم حيث تعيش القصص. اكتشف الآن