فكرية الدعوة الأولى

598 35 22
                                    

تراها كل صباح باكر بعد صلاة الفجر، تجمع عبوات المياة الفارغة و الأكياس البلاستيكية من القمامة، و تضعها في جوال كبير تجره خلفها.. قصيرة القامة، ضئيلة الجسد، ذات بشرة حنطية داكنة.

كلما جمعت كما لا بأس به من البضاعة التي تعد كنوز بالنسبة لها من القمامة، ترفع يديها للسماء شاكرة فضل الله. تظل تعمل حتى العاشرة صباحا، بعدها تذهب لمن هو أعلى منها في المهنة لتستبدل كل كيلو من العبوات الفارغة و الأكياس بجنيه و ربع الجنيه. تعد جنيهاتها القليلة و تعاود تقبيل يدها و نظرتها الحامدة للسماء.

خطواتها الوئيدة الواثقة، رغم إنحناءة ظهرها البسيطة بسبب سنها المتقدم و ما جابهته من معارك مع الحياة، و هي تقترب نحو جهتها المقصودة تدفعك للشعور بالشفقة و الحنو عليها. بعض العائلات الميسورة الحال بالمنطقة التي تعمل بها، يتصدقون في كل جمعة قبل الصلاة، فيجعلهم الله سببا لرزق لهذه العجوز و غيرها...

يعرفها الناس باسم "أم حوده" قد يخيل للبعض أنها في الثمانين من عمرها، إلا أن عينيها الجذلاتان اللامعتان يعودان بعمرها لعقدين من العمر و أكثر. اسمها الحقيقي "فكرية". تشعر بإرتياح رهيب حين تنظر لملامحها السمحة، أو تسمع ضحكتها المتبوعة بسعال قوي يرتج له كل جسدها.. إلا أن ذلك لا يمنعها من الإبتسام بحياء و هي تطيل دعوتها بصدق نابع من قلب خاشع لمن يطلب منها أن تدعي له.

رغم غرابة الأمر بعض الشيء، إلا أن كثير من الأهالي يتباركون بها حقاً، فما من أحد دعت له، إلا و أكرمه الله بفك الكرب. سبحان من جعل بين أمته الفقيرة و بينه إستجابة لكل دعاء يخرج من بين شفتيها بخشوع و تضرع صادق. دعوة من القلب و كأنها تدعو لولد أو ابنة لها.

في أثناء عملها ترتدي نفس الجلباب، و الذي يبدو دائما نظيفا لا تشوبه شائبة، و رغم مجال عملها، لا تنبعث منها أبدا رائحة كريهة.. بل على العكس تعطيك دوما شعورا غريبا بأنك في حضرة جدتك أو أمك حسبما كان عمرك، بعد أن تفرغ من صنع أرغفة الخبز.. تستطيع أن تسمي تلك الرائحة بالدفئ.. نعم الدفئ له رائحة، و هي نفس رائحة "فكرية" الشهيرة ب"أم حوده".

ذات جمعة أرسلت والدتي في طلبها، كي تأتي لمنزلنا فعطيها مجموعة من زجاجات المياة الفارغة و مخلفات المنزل من الكارتون و عبوات البلاستيك التي أصبحت أمي تخزنها خصيصا لها، و قد أصبح ذلك عرفا ليس في منزلنا فقط، و إنما في عدة منازل بالحي السكني الذي نقيم به، و لحسن حظي أنها طرقت الباب، و كانت والدتي بالخارج تبتاع شيئا للبيت، ففتحت لها، و بإنتظار مجيء أمي، بدأت حواري معها، كانت رغم عدم تعلمها ملمة بما يجري في الدنيا حولها، عذبة الحديث، باسمة الوجه، سمحة المحيا، خفيفة الظل جدا.

كلمة تجر الأخرى، قدمت لها شرابا حلوا، فضحكت و أخبرتني أنها مريضة سكر إلا أنها ستشربه بسبب شعورها بالحر، و ضحكت قائلة:
"السكر أكل سناني كلها، بس قولي يا باسط. عارفة.. أنا كنت حلوة بس الزمن.. الحمد لله على كل حال.. مسيري أوريكي صور جواز بناتي و تشوفي. بنتي الوسطانية شبهك طويلة و بيضا مش شبهي خالص دلوقت.."

عجوز بقلب طفلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن