في داخل أسبانيا الحارقة. المليئة بالحرارة و الطرب الذي يعتمر الشخص، معنويا و حسيا. بعيداً عن هذا النبض الموسيقى الحي، توجد تلك البلدة التي لم يعترها صخب المدن الصارخ. ولد الإبن الأصغر الثاني لأمه؛ فرناندو كابيس, باكياً ليكسر صمت الليلة الصيفية الحارة بوجودهِ على وجه الدنيا بعد ترقب.
كعائلة نبيلة و ذات رتبة أعلى من حشود العامة "العاديين" تأتي توقعاتهم من أبنائهم عالية جداً لدرجة مخيفة بعض الأحيان. حيث لأنهم ذو "رتبة نبيلة" يجب أن يكونوا الأفضل ثم الأفضل من الأفضل في كل شيء. و إلا -للأسف- سيحملّوا عائلتهم العار، و يجبروا أهاليهم على إستحظار المنة بتذكيرهم بانهم ولدوا أبناء نبلاء و ليس من الحاشية. و في نهاية الأمر يعيشوا حياة الذل و الاهانة، لعدم قدرتهم على تحقيق ما مراد منهم كواجب عليهم في وسط العائلة. فمن هذا المبدأ انطلقت في المضِّي سنين فرناندو الأولى على سطح الأرض. مثبتاً إستحقاقه لإسمه – و معناه القيادة— في جعل هذه القوانين تسير من أجله و ليس العكس. هذا- و هو بالكاد بلغ العشر سنين.
بالطبع؛ كفتى مقدام و حركيّ في روحه و جسده، حياة الراحة و الثراء و البثخ لم تناسبه بل كانت تدخل الفتور إليه. التوسل و التضرع الذي يراه على وجوه خادميه كان يحرك ألماً ما في صدره لم يكن يفهمه بعد. بتوفر كل ما يريد حوله من أحسن ما يكون. ما زال قلبه يقرصه مخبراً إياه أنه يشعر بالنقص. حتى بوجود أُمّان له: أمه و مربيته؛ يغدقونه بالدلال- حتى في غياب أبيه و أخيه الغير مفسّر. كل فرد من العائلة من مرّ به يتلقى ابتسامة تشرق له فؤاده. أولاد عمه و عماته برفقته دوماً. الجو الخريفي الشبه دائم المغدق بالألون الذي ينزل على بلدته الصغيرة يلبسها كل يوم لونا مبهرا جديدا. كل هذا لم يملأ عينيه الصغيرة- مازال يرى أن هناك ما يتعدى ذالك. يريد أن يخرج من عشه الجميل؛ يريد أن يذوق أي شيء يختلف عن هذا الذي إعتاده. حتى أنه في نقطة ما أخذ بالتسلل ظهيرة كل يوم ذاهباً ... إلى " المجهول"!
في ظهيرة يوم مشمس جلس في موقعه المفضل على شرفة منزله المطلة على مزرعة العائلة، قرب أغصان شجرة الليمون المنسدلة على طاولته؛ ليتمتع بعبق أوراقها. صحب معه علبة بسكويت بالزبدة من خبز مربيته ليقرمشها مع كوبٍ من الشاي- كوجبة خفيفة قريبة إلى قلبه. وضع العلبة البيضاء المزركشة بالذهبي على حضنه و تصارع معها لفتحها. في حين ذالك سمع صوت محرك شاحنة يقترب من الأفق. أطلَّ مطولاً حتى لمح الشاحنة. كانت شاحنة نقل حمراء مهترئةَ الطلاء، تتخلخل في سيرها و تتكركر- قليلا و تتفكك مهلكة. إنعطفت يميناً فتمكن فرناندو أن يرى المؤخرة ثم توقفت قريباً من بوابة المزرعة الخشبية. في صندوق الشاحنة كان فتى ضخم البنية- ذو شعر أشقر ذهبي يرتاح على كتفه. أكبر من فرناندو بعدة سنين يجلس و أثر التعب باديا على وجهه. جلده الأسمر يلمع عرقاً، من الواضح أنه تحمص تحت الشمس طوال الطريق. كان مسندا رأسه للوراء شبه غاف. فرناند ترك ما معه واقفاً ليقترب أكثر متفحصاً ملامح هذا الفتى الجديد عليه. ابتسم في إشفاق حين ناداه السائق بصوته الأجش "كارلوس! تعال!"، جعله يجفل و يقفز من مكانه بوثبة رشيقة خارجاً من الصندوق نحو سيده. أعجب فرناندو بما قام به- و فكر في نفسه أن هذا الفتى معتاد على العمل الشاق- كما يبدو. لم يستطع فرناندو أن يفهم حديثهما لبعدهما عن مسمعيه- لكن بدى له أنه كان يعّلمه و يوجهه إلى أين يذهب و ماذا يحمل و ما شابه. ضحك فرناندو مفكراً "هذا الرجل يؤشر بيده أكثر مما يتكلم " و هو ينظر إلى إيمائات كارلوس المتكررة بالإجابة–بإنتباه.
أنت تقرأ
حب ضد كره: آل كبيس
General Fictionالحب في نفوس البشر لا يتواجد من دون نظيره: الكره. ككل شيء يتضمن الحياة بأكملها- بشمولها، وُجد لها وجهان. الشيء و نظيره. لكن – مثل ما تقوم به بركة ماء معكر سطها بتشويه إنعكاس شيء ما عليها؛ و قد تغير ماهيته إلى ضدها بالكامل- يترآئ للناظر إلى هذان ال...