الحب أحيانا يجعلنا نعيش أوهاما مغلوطة ، أحلاما مسمومةً سريعا ما تتحولُ القلوبُ بعدها حزينة مكلومَة !! نُعطِي العهودَ و نُبْرِمُ العقودُ و نقطعُ ما يصعبُ تحقيقه من وعود دون دراية بالعواقب. ففراغه الذي امتد منذ افتراقه عن هاجر قد ترك جرحا غائرا تطلب منه ثلاث سنوات لمداواته و مجاراته ، فإذا بجملة من كلمتين تنسَدلُ جميع الخيوط و ينبعثُ الجرح من جديد !!
اتجه نحو القاعة و هولُ الصدمة باد على محياه ، انعزل كعادته في المقعد الأخير. عيناه تائهتان وسط صخب القاعة و كثرة الوجوه و تعقد الأسئلة في ذهنه ، و يداه ممدودتان على الطاولة و رأسه منخفض كأنه يشكو ثِقَلَ الحَمْلِ المرمي على كاهله !!
أخذت القاعة تكتض و أصبحت معظم المقاعد شاغرة باستثناء الذي بجانبه ، بسرعة خاطفة ملأتْهُ فتاةٌ لم يهتمَ لأمرها فهو منهمك في حل لغز حياته المحير !!
دخل الأستاذ و أغلق الباب معرفا بنفسه و إذا به يلحظُ الفتاةَ الجالسةَ جنبَهُ، أثارتْ نظرتُه المباغتة ردةَ فعلها فسألته بتعجب :
" أنتَ !!! هنا أيضا !!! "
أجابها بتفاجئٍ هو الآخر :
" أنتِ !! هنا أيضا !! "
انتبه الأستاذ لحدة صوتيهما فطلب منهما القدومَ للمنصة و التشرفَ بتدشينها كأولِ من سيتمُ التنمرُ عليه من الدفعة !! لم ينهض أي منهما فصاح الأستاذ بصوت عال :
" أنتَ !! أنتِ !! إلى هنا أيضا !!"
تقدما نحو المقصرة بخطوات متثائبة كأنه النداء الأخير ، و الحمرَةُ تزينُ وجهيهما ، فقد تسبباَ لبعضهما بإحراج مجاني ، بل و تحول لفرصة لتكسير الحواجز و خلق صداقات سريعة نشأت على ضوء ضحكات استهزاء متوالية !!
تقابلا مع الأستاذ بمسافة متوازية، حينها سألَ الفتى :
" شرفنا بمعرفتكَ يا أنت !!"
أجابه بحذاقة لبقة :
" أستاذي ، السيدات أولا !! "
انطلقت قهقهات البقية في جنبات القاعة فأضفت جوا مرحا غطى على توتر البدايات ، تناسى الأستاذُ معه جرأةَ الطالب و وقاحته فبادره معلقا :
"أنا لم أسألك أولا لأنك ذكر ، و إنما لأنها هي الأولى من طرحتْ عليكَ السؤال بكل بساطة !! "
تعالت تصفيقات الطلبة و صيحاتهم على الإجابة الفادحة التي تلقاها ، أسرَّها في نفسه و استجمعَ شتاته و بدأ الحديثَ بصوت قوي :
" اسمي هو الأخير في اللائحة ، ابن البيضاءِ ولادة و تربية و إنسانية ، سني حسب تقويمكم عشرون و في تقويمنا شاب عايش الكهولة منذ طفولته ، أجلسُ دائما في المقعد الأخير و لا أتمنى لغيري سوى التوفيق و الخير !! سببُ وجودي هنا محاولة إعادة ترتيبِ أوراق حياتي و صاحبةُ الأسئلة الكثيرة !! خَتَمَ مشيرا إليها كأنه ناولها الحديث فأكملت قائلة :
" اسمي هاجر الثابتي ، عمري ثمانية عشر و هاته المرة الاولى التي أكون بعيدة فيها عن أهلي و مدينتي تطوان ، حلمي إتمام دراستي و الرجوع سريعا لمدينتي ، فالغربُ و إن بدلَ مكانه لشرقٍ فالوقاحة و قلة الأدب تجري في دمه !!
لم ينتبه كثيرا لما قالته ، فالجملة الأولى استرعتْ كل اهتمامه ، سببُ تعاسته دائما كانت بجانبه طيلة الوقت ، بل و سألته فنهرها بوقاحة. غرق في بحر ذكرياته و بدأيقارن بين الأولى و الجديدة محاولا ايجاد الياءِ الزائدة فيها. تاهَ بعدها في تحاليله العميقة : أ لهاته الدرجة تقسو عليه الحياة مرتين ؛ غربة في وطنه و غربة في قلبه. في المغرب لكنه مغترب ، و بجانبه هاجر الثابتِ ....." ي ُ" !!
تبا للياء و لمن اخترعها !!أنهيا الحصة على وقع النظرات الحذرة، يهم أحدهما بالكلام فتهوى عزيمته في اللحظة الموالية. علِمَ حينها أن القدر قد أنهى هدنتَهُ المؤقتَةَ و أن حياتهُ قد عادت لجو الإثارة و التشويق !!