«سيّدتي، أنا ذاهبة إلى دورة المِياه!»
بلُغةٍ إنجليزية لا لكنةَ تنحشر بين ثناياها، تكلمت فتاةٌ وجهها عاديُّ الملامح تمامًا، قاصدةً إخبار الأستاذة بخروجِها لا استئذانها. ثمَّ لاحت خطوة بعد أُخرى صوب باب الصّفِ الأزرق، بابٌ تعلوه سنحةٌ لامعة نوعًا ما، تمشي في الرواق وتتمتم :
«ليس عادلًا، هذا ليس عادلًا البتّة»
تدير رأسها عند منعطفٍ من أصل اثنين، بوسعها أن تلمح، هناك في أعلى المُجمع التجاري الجديد، في قمّته، أربعة رجال، لا بدّ وأن يكونوا رجالاً، لكنّها استمرت في رؤيتهم تماثيل غوريلاّت لا تتحرك قيد اُنملة، متذكرة فيلمًا خالدًا عن غوريلَا عنيدٍ. تنزل الأدراج، لكنّها لا تفعل ذلك بسرعة، ولا ببطء أيضًا، تُراعي الكعبَ المتوسط المميز لحذاء أُختها الرّياضي الذي يتوسده باطن قدمها. تعرف أنّها قد اشتاقت لهُ كالعادة وأنّ هذا يحرق فؤادها، يتركهُ رمادًا. هذا الشّيء ليس عادلًا أيضًا. لم ترهُ طيلة الصّبيحة بالفعل، وبمجرد أن حضر حصة واحدة غادر الأخيرة، دون أن يكون بوسعها أن تحظى بمحادثة لائقة واحدة معه. هي تحبُّه، وهذا كان شديد الوضوح.
تأخذُ المُنعطف الثّاني، ثمَّ الأدارج بعده. تلمح فتاةً تصغرها بعام في المبنى المقابل لها تمامًا، مبنى السنة الأولى. تعرف تلكَ الفتاة؛ إنّها جارةٌ. تختار طريقًا من أصل طريقين نحو دورة المياه، تختار الأبعد عن أنظار المراقب العام، والمُشرف. هاربةً حينها من نظرات أيِّ أحد في الثّانوية كلّها، تخفض رأسها، تُمركز مقلتيها على الأرضية غير السّوية. تعتقد خفيضة الرأس أنّ ليس بمقدورها أن تبتسم بعفوية إذا ما لاحظتها الجَارةُ؛ غير أنها وبعد ثانيتين ونصف تفعل ذلك.
هناك شيء يحدثُ لها، إنّها تتغير بشكل فجٍّ، صارخٍ.
ما خاضتهُ في الشهور السابقة كان تجربةٌ جعلتها تستطعم مشاعر نصفَ جديدة إن صحَّ القول: غيرة حارقة، غضب، ندمٌ وحبٌ. لربمَا كانت هذه مشاعر بالضبط، هذه المشاعر القائمة بذاتها قديمةً، مُجربَّة وليست مُبهجةً بقدرٍ كبير لكنّها تعزِّي نفسها بأنّها لم تشعر بشيء منذ مُدة، وأنّه لا بأس إذا ما تمادت قليلًا الآن. الأمرُ أشبه بنيرانٍ تغزو كيانَها البَشري الخاوي. تستشعر هذه النيران مُلتهبة مُتأججة، ولكن من يدري كيف هي حقًا.
«ما هو الشيء غير العادل؟» هي تتساءل، لماذا بحقّ هي تتذمر؟ بل، والأهم ممَّا قد تفعل ذلك؟
تُذبِّلُ جفنيها بأمل، تتمايل وتتهادى، ما زالت تهذي وتتخيل مشهدًا حين تلتقيه صُدفة قرب دورة المياه، لربما لم يغادر بعد، ما زال رفقة أصدقائه الأكبر منه سنًّا، يصرخ معيتهم على هدف سُجل في مرمى فريق من الفريقين، وسط ملعب الثّانوية الذّي يبعد عن موقع الحادثة المتخيلة بضعة أمتار. ولكنَّ هذا لا يحدثُ أيضًا، لا شيء يحدث.
تلوح قدمَها للأمام، تقرأ أوَّل ما تقع عينيها عليه وسط حائطٍ أصفرَ باهت: أكرهك، وتردُّ هي بأنّها تكرهه -أيَّا كان من كتب ذلك- أيضًا. تدخل المراحيض الفارغة كُلّها، وحالة من الذُّهول غير المُبرر تعتريها، تنتظرُ دون وجود بصيص أمل واحد. وتعتقد أنّه من الجسارة أن يكتب كلُّ شخص اسمه واسم أحدٍ غيره على الأبواب والجدران هكذا، بعبثية ورغبة جامحة في أن يتم تذكُّرهم.
تخرج.
أنت تقرأ
حبّ قصير، قصّة قصيرة.
Short Storyعن بهجة اللقاء الممزوجة بحسِّ الواقع ولحظية الوقت. قصة قصيرة، المراد بها تخليد ذكرى وتجاوزها أيضًا. الـ 13 من آذار الهذّار عام 2020.