هل ستنفجر؟

32 5 9
                                    

*(4)ساعات لتنفجر*

اثناء القيام بواجبهما المعتاد في مراقبة عمل السيطرات الامنية في منطقة حزام بغداد من الناحية الشمالية جَلب الضابط في احد فرق الاستخبارات المركزية يحيى عمران المسيحي الاصل اثنان من المشروبات الغازية بطعم الليمون لنفسه و لرفيقه بعد ان اشتراها من حانوت صغير بالقرب من السيطرة الامنية يبيع مستلزمات السفر الغذائية على الطريق السريع، أراد ان ينعش حرارة الاجواء رغم شدة سطوع شمس العراق في هذا الوقت من السنة. كانت خطواته بالمشي سريعة لكي لا تنال منه حرارة الشمس و تُسخن المشروبين الباردين. عندما وصل لصديقه علي وسام الضابط الاخر معه في الواجب الذي كان واقفاً تحت مسقف يقيه من اشعة الشمس يراقبُ سير العجلات امامه، ألتفت فرأى يحيى عمران يحمل مشروبان غازييان و يقول له مبتسماً:
-أنعش قلبك يا علي.
نزع علي وسام نظارته الشمسية و وضع يده الاخرى على قلبه شاكراً يحيى عمران على هذا الشراب و قال:
-مشكور جدا، لكن انا اليوم صائم.
تفاجئ يحيى و أستحى و قال:
-حسنا لا بأس.
كان الرجلان يرتديان ملابس مدنية فضفافة لكي تُخفي المسدس المرفق على خصريهما فلا توحي انهما من الشرطة، يقفان على جانب ليس ببعيد عن الشرطة الذين يفتشون السيارات بواسطة k9 "كلب بوليسي" الذي كان الوحيد في هذه السيطرة و يقوم بعمل تفتيش السيارات الوافدة ليل نهار بدون راحة طويلة، لكنه رغم ذلك يؤدي عمله بشكل دقيق "غالبا" ، ايضا انه قد تناول طعامه بنهم و شراهة قبل قليل فإِزداد نشاطه.
كان على يحيى عمران ان يشرب المشروبان لكن خلال شربه للمشروب الاول ارتفعت حرارة الثاني و اصبح طعمه لا يساعد في انعاش البدن، فقرر ان يسكب المشروب الغازي الثاني في وعاء ماء الكلب البوليسي. توجه يحيى عمران نحو وعاء الماء الذي كان بجانب الكلب الجالس على الارض ليرتاح و سكبه في وعاء ثم نظر الى علي و قال ضاحكاً:
-هذا سيسهل عليه هضم ما أكله من لحم.
ضحك علي وسام على ما فعله يحيى؛ فيحيى بالنسبة لعلي شخصية دافئة و مضحكة ايضا تضيف على الاجواء "رغم حرارتها العالية" شيئ من الفكاهة الايجابية رغم ما تعرضت له عائلته من تهجير اجباري بسبب التهديدات التي كانوا يتلقوها في فترة 2006 من جهات مجهولة فهاجرت عائلته الى سليمانية و بقي هو ببغداد بحكم وظيفته، فَلَمْ يؤثر ذلك على نفسيته بسبب صبره و إيمانه.
نهظ الكلب ليمارس عمله بعد ان شرب من وعاء الماء الذي اصبح مخلوطاً بالمشروب الغازي، امسك الشرطي حبل طوق الكلب ليفتش شاحنة لنقل البضائع المجمدة، ذهب احد شرطة الموجودين ليسئل السائق عن اوراق السيارة و البطاقة التعريفية و غيرها. بينما أخذَ الكلب يشمشم السيارة من مقدمتها حتى وصل لنصفها و بدأ ينبح بصوت عالي و يدفع نفسه بقوة كأنه يصر ان يدخل داخل الشاحنة إلا ان الشرطي أحكم شد حبل طوق الكلب و عندما سمع الشرطي الواقف بجوار السائق نباح الكلب أمر السائق بالترجل عن سيارته و فتح باب صندوق السيارة الخلفي ليفتشوه. وضع علي وسام و رفيقه يداهُما كُلٌ على مسدسه كأنهما يستعدان للانقضاض على سائق الشاحنة المشكوك فيه.
كان جميع الشرطة من في السيطرة الامنية هذه على اهبة الاستعداد فأنهم لا يستبعدون سيناريو تفجير سيارة مفخخ في هذه السيطرة و هذا الامر وارد جدا بعد احتلال داعش للموصل، حتى اصحاب السيارات الباقية كانوا يراقبون كيف يفتح السائق اقفال الباب الخلفي للشاحنة و الكلب البوليسي لم ينكف عن النباح.
فتح السائق باب شاحنته و انكشف ما داخلها بعد ان خرج منها نسيم و بخار بارد ثم أغلقها، تفحصها الشرطيان و قالوا للسائق:
-توكل على الله.
لم يفهم يحيى عمران و علي وسام ما حدث حتى نادى علي على شرطي الذي كان موجوداً.
-سيدي لقد كانت شاحنة نقل لحوم ابقار و دجاج فبدأ الكلب بالنباح لهذا السبب.
هذا ما نقله الشرطي علي فرفع حاجبيه و وضع يديه على ذقنه الحليق متفهما الوضع. ثم رجعت الاوضاع على طبيعتها. و رحلت شاحنة اللحوم المجمدة و تلتها سيارة مارسيدس سوداء ذات موديل قديم لكنها لازالت محافظة على اناقتها و هيبتها، كان فيها شخصان فقط و كانت النوافذ السيارة مفتوحة اصلا. السائق كان يضع قبعة غاتسبي او ما تسمى كوبولا التي يرتديها عادة الفنانين و المثقفين، و الاخر جالس بجانبه و كان حليق الرأس و الوجه ذو شوارب خشنة و وجه ذو معالم بارزة. عندما توجه الشرطي نحو السيارة اخرج السائق هاتف محمول قدمه للشرطي فوضعه على أُذنه و اتسعت عيناه و بدأ يتحدث مع المتصل باحترام و خِشية وأنهى الاتصال، ثم أشار للشرطي الممسك بالكلب البوليسي ان لا يفتش السيارة. جرى ذلك امام انظار علي وسام، فلاحظ الرجل الجالس بجانب السائق حَليق الرأس ذلك فرفع حاجبه مبتسماً ابتسامة مريبة ملوحًا لعلي من داخل سيارته، تعجب علي من هذا الفعل، ثم انطلقت السيارة الى وجهتها.
اثار هذا الفعل علامات استفهام لعلي و شهد على ذلك يحيى عمران ايضا فقد تابع المشهد امامه ايضا. فلماذا لم يتم تفتيش هذه السيارة بالخصوص. فعندما سئل يحيى عمران الشرطي عمّا حصل اجابه:
-سيدي لقد وردني اتصال من قبل رائيس شعبة الاستخبارات المركزية و قد عرفني بنفسه و قال اسمي الكامل و رتبتي و لقد عرفته من خلال ذلك و نبرة صوته التي اسمعها عندما اشاهده على التلفاز.
هذا ما فهمه يحيى و قاله ايضا لعلي. على كل حالٍ ان هذه السيطرة هي اخر سيطرة امنية تُدخلك لبغداد. فقبل الوصول إليها عليك عبور سيطرتين مماثلتين بل اقوى تفتيشاً و مسائلة. و ايضا ان وقت مناوبة علي و يحيى قد انتهت بالفعل فقد دقت الساعة 3 ظهرا.
لكن علي بقي يفكر بالمشهد الذي جرى امامه فأنه شعر بالاهانة. و هذا ليس ليس بمهم بل الأهم هو الامر التالي، فأنه عندما سئل الشرطي الذي فتش سيارة نقل اللحوم "هل فتشتم السيارة جيدا؟" فأجابه الشرطي "نعم سيدي" إلا ان علي كان يراقب كل شيئ فَلَمْ يرى ذلك التفتيش الذي يشفي الغليل حقا فقد كان تفتيشا لمحتويات مقصورة السيارة الامامية من مقاعد و اجرائات السؤال و الجواب المعتادة فقط، ولم يرى احدا منهم يفتش ما تُحملهُ هذه السيارة مُكتَفينَ بأن الكلب البوليسي قد نبح لانه يريد أكل هذا اللحم الموجود بالسيارة و كسلٍ منهم لان السيارة كانت مملؤة بالصناديق و اللحم.
و ان هذه الاشكالات تثير بداخل علي القلق و الشك حولها. فأن التغافل عن هذا قد يؤدي الى خيبة أمل كبيرة و حسرة و قهر اذا حدث فعل شنيع نتيجة التهاون كهذا. و ان علي اذا سقط شك في ذهنه سارع لسد الفراغ الذي يخلفه سقوط هذا الشك لكي يرتاح من تأنيب الضمير. فأنه يتذكر مقولة ابيه "لا تدع حفرة الشك و ان كانت صغيرة تثير لديك القلق،فقط سارع لدثرها بطريقتك"
-يحيى هيا لنذهب بسرعة.
قال يحيى:
-لماذا مستعجل؟ فالننتظر الضباط ليأتوا ثم نرحل.
-لقد تأخروا بالفعل! هناك اشكال اريد ان اطرح لك بسرعة.
تحرك علي وسام لسيارته المركونه بجانب هذه السيطرة الامنية و معه يحيى عمران، و صعدا بها و على علي علامات الاستعجال و العجب فسئله يحيى "ما بك؟" فبدأ علي يسرد عليه تساؤلاته و هو يقود السيارة على طريق السريع.
يقول يحيى واضعا يده على رأسه:
-و ماذا نستطيع ان نفعل الان؟ فاذا تريد ان نبحث عن تلك الشاحنة سوف نفشل!
رد عليه علي:
-يبدو على السائق انه قادم من الشمال و اغلب السائقين القادمين من هناك يتوقفون بعد عبورهم السيطرات لتناول وجبة الغداء او العشاء او ليشربوا كأس شاي . أليس كذلك؟
-نعم،و هل سوف نبحث عنه في كل مطعم ؟!
-طبعا.
-هذا خطأنا كان يجب علينا ان نأمر الشرطة بتفتيش السيارة جيدا.
-لا تلم نفسك فقد تحركت سيارة بدون تفتيش اصلا من امامنا.
توقفا عند اول مطعم على طريق و نزل علي ليبحث عن السيارة في موقف السيارات لكنه لم يجدها فعاد لسيارته و هو يمشي بتسارع.
و توقفوا عند ثاني مطعم و كان اسمه "مطعم ابو حَمَد" فكان ذو بوابة واحدة لدخول و خروج السيارات من و الى موقف السيارت و بعض السيارات المركونة امام باب المطعم. فلاحظوا وجود نفس الشاحنة التي يقصدونها. فركن علي سيارته عَرضياً امام بوابة الموقف مانعا السيارات من الخروج و الدخول ثم ارتجل من سيارته قاصداً المطعم. دخل قاعة المطعم العامة و قد كانت مكيفة و باردة فشعر علي بالانتعاش لان سيارته كانت تعاني من عطل في جهاز التبريد.
لم يستفسر او يسئل و اكتفى بالتحرك بين الطاولات باحثا عن السائق، فلم يجده في قاعة الطعام. و اعتقد انه سيجده في الحمامات الرجالية فذهب هناك و كانت هناك ثلاثة من الحمامات اثنان مفتوحا الابواب و الثالث مغلق دليلٌ على ان احداً داخله. فتظاهر انه يغسل يداه بالمغاسل الموجودة امام ابواب الخلاء مستعيناً بمرآة معلقة على الحائط تَعكُس انعكاسَ صورة الشخص اذا فتح الباب و خرج؛ فلبث برهة ينتظر خروج هذا الشخص أملاً ان يكون هو الرجل المنشود، ما هي إلا دقائق و انفتح الباب و ظهر الرجل الذي كان في السيارة التي سُمحَ لها بالمرور بدون تفتيش، انه ذلك الرجل الاصلع ذو الشارب البني الذي لوح لعلي اثناء مروره امامه قبل ثلث ساعة في السيطرة. اتسعت عينا علي من الشدة الصدفة، فعرف انه تأخر عن زميله فأغلق الصنبور و اخذ ينشف يداه، بينما كان الرجل الاصلع يغسل يداه ثم ألتفت نحو علي وسام و قال له بصوت غليظ:
-هذه المهنة لا تفيدك، اتركها.
توقف علي وسام من تنشيف يداه بالمنشفة و ادرك ان ما قاله له هذا الرجل ينبئ عن معرفته من هو "علي وسام" فهو طبعا لم يقصد ان يترك علي تنشيف يداه بالمنشفة لانه عمل لا يفيده... بل كان يقصد امر اكبر و هو وضيفته الامنية في جهاز الاستخبارات! لكن كيف عرف؟، تجاهل علي وسام قول هذا الرجل الاصلع ذو الشارب البني و مشى بتثاقل بالمَمَرِ الى ان سمع صوت أرتطام سيارتين و بوق سيارته يعلو بصوت ملئ المنطقة ثم أعقبه صوت صياح صديقه يحيى عمران:
-أنزل من سيارة الان!
فتسارعت خطوات علي وسام خارجاً من المطعم و متجهاً نحو رفيقه.
لقد كان صاحب الشاحنة الذي يقصدونه! يبدو انه رأى قدوم هذه السيارة عبر شبابيك المطعم الزجاجية فتعرف على وجوه الضابطان فأنهى شرب كأس شايه و انصرف للمغادرة من الباب الخلفي للمطعم، شغل سيارته و قادها للبوابة و تفاجئ بوجود سيارة تسد طريقه نحو المخرج و صاح فيه الضابط يحيى عمران و أَمَرَهُ بالنزول فوراً.

&&&

4 ساعات للانفجار .حيث تعيش القصص. اكتشف الآن