*على منهاج النُّبُوَّة ٤٢*
*لو كان المُطْعِمُ بن عَدِيٍّ حياً!*
يا ليوم الطائف ما أقساه، حملَ الجنة يومذاك وذهبَ بها إلى هناك أَنْ آمنوا وادخلوها، ولكن ابن عبد ياليل سيد القوم قال له: أما وجدَ اللهُ غيركَ ليُرسله؟! ثم أطلقَ وراءه الغُلمان والسُّفهاء ليرجموه بالحجارة! كُذِّب بدعوته، وأُوذِيَ بجسده، وسالَ الدمُ الشريف، وما أجرأ الناس على الله، وما أحلمَ الله على الناس!
ولأنَّ المصائب لا تأتي فُرادى، ولأنَّ أشدَّ الناس ابتلاءً الأنبياء، وهو سيدهم، كان على موعد مع ابتلاءٍ جديد حتى قبل أن تلتئم الجراح في قدميه، أما عن جرح قلبه فكان ما زال ينزُّ حين قررتْ قُريش أن تمنعه من دخول مكة، وهكذا صار بين نارين لا الغريب قبِلَ منه دعوته، ولا القريب قبلَ عودته! فكان لا بُدَّ له أن يبحث عمَّن يُجيره ويحميه ويُدخله تحت كنفه إلى مكة، فذهب إلى المطعم بن عديٍّ، وقبلَ أن يُجيره، وباتَ عنده تلكَ الليلة، ثم لما كان الصباح، خرجَ المطعم وبنوه مُتقلِّدي السيوف، حتى أتوا الكعبة، وقال للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: طُفْ بالبيت ما شئت!
فجاء أبو سُفيان فقال للمطعم: أمُجيرٌ أنتَ أم تابعٌ له؟
فقال: بل مُجير
فقال أبو سُفيان: قبلنا جواركَ، وخلَّينا بين محمد وما هو فيه!
ثم مكثَ أياماً في مكة، وأُذِنَ له بالهجرة، ودار الزمان قليلاً، ماتَ في دورته المِطْعَم بن عديٍّ، ثم كانتْ غزوة بدر التي انتهتْ بالنصر، ولما جِيء بأسرى قُريش إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: لو كان المُطْعِمُ بن عديٍّ حيَّاً وكلَّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له!رغمَ أن هؤلاء أسرى حرب، ولو أن أحداً استطاع أن يقتله ما تردَّد ثانية، ولكنه حَفِظ َللمطعم بن عديٍّ معروفه معه، ولم ينسه، وأخبرهم أنه لو كان حياً وشَفِعَ فيهم ما ردَّ طلبه، ولأطلقهم له عرفاناً بمعروفه الذي صنعه معه!
النُّبلاء لا ينسون مواقف الآخرين المشرِّفة معهم حتى ولو كانوا من غير مِلةٍ وعلى غير دين!
فهل حفظنا للناس معروفهم، وتحيَّنَّا الفُرص لنرد إليهم هذا الجميل عملاً بهَدْيِه وسُنَّته، أم أخذنا ومضينا؟!العبدُ تُقيده السلاسل، أما الحُرُّ فيُقيده المعروف! فكُنْ حراً ولا تنسَ معروفاً أُسديَ إليكَ، صحيح أن الذي فعلَ المعروف هو في الغالب لا ينتظر سداداً، ولكن من العار أن تنسى أنتَ!
تقدَّم رجل لخطبة امرأةٍ، فقال له أبوها ما زوجتكَ إياها عن زُهد فيها، ولا عن ثُقلٍ في الإنفاق عليها، ولكنها سُنة الله في الناس، ما استطعتَ أن تُحضره من مهر وبيت وجهاز أحضره، وما قصَّرتَ به أنا أدفعه!
وتمَّ الزواج، ويقول الزوج بعدها: نحن معاً منذ عشرين عاماً ما أغضبتُها يوماً، وحتى حين كانت تُشاجرني كنتُ أتذكرُ معروف أبيها معي، فأُراضيها ولو كانتْ هي المُخطئة!
إنَّ المعروف لا يضيع، وإن ضاعَ عند الناس فلن يضيع عند الله، فاصنعْ المعروف صنع من لا ينتظر السداد، ولكن إن أسدى إليك أحدٌ معروفاً فاعتبره دَيْناً وابقَ طوال العمر مُتحيِّناً اللحظة التي تُتاح لك فيها سداده فهذا خُلق الأنبياء!أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطرية