الفراغ ... كم أحب هذه الكلمة، معبرة جداً، وتذكرني بأيامي الأولى في هذه الحياة، أيام رغم مرارتها فإني أحبها، وأحب تذكرها
كان الأمر تماما كالفراغ، ... مجرد محيط أسود شاسع من الكآبة والوحدة الخانقة، لا يسمع فيه صوت ولا يُرى فيه شيء غير الظلمة الحالكة
... وكأنه العدم بحد ذاتهحسناً، .... لو دققت النظر جيداً في ذلك السواد الحالك ستعلم أنَّه ليس فعلا فارغاً تماما
فهناك بين ظلمات العدم، ستجد بقعة صغيرة جداً من الضوء الخافت، تقف في منتصفها طفلة صغيرة ذات بشرة حنطية فاتحة، وشعر قصير بلون أسود داكن لا يميزه عن الفراغ المعتم حوله إلا بريقه الأخاذ
مع عين خضراء زمردية في غاية الجمال وكأنها نجمة تسطع في سماء الليل ... نجمة باهتة حزينة باتت تلمع وحيدة متألمة، اذ غابت عنها أنيستها ورفيقة دربها التي انطفأ بريقها مؤخَّراً،
ربما قد تحزن على تلك الجوهرة التي فُقدت من السماء، لكني جِد سعيدة لسقوط هذا الشهاب الأخضر الجميل، فبانطفاء شرارته، سنحت لي الفرصة كي أخرج إلى الحياة من هذا الرحِم الأسود الكئيب، كي يسطع نجمي مكان تلك الجوهرة الخضراء التي انطفأ بصرها،
منيرةً الفراغ الأسود حول زمردتي الوحيدة الغالية، راجية أن تلحظ وجودي، ... أن تبصر نوري من بين ظلمات فراغي العزيز.فراغي العزيز ... فراغي الذي احتضنني بين غيومه السوداء عندما كنت مجرد شرارة أمل صغيرة في أعماق روح أختي الممزقة .
قد تتساءل الآن عمّا يكون هذا الفراغ صحيح ؟!
حسنا .... إنه عقلي، ... أو قلبي ربما؟! ، أو حتى قد تكون روحي!!
لست ادري .... وفي الواقع لا أهتم،
سمِّه ما شئت.
فمهما كان، أنا أحبه رغم كل شيء،
وسأظل أحبه رغم كل الحزن والأسى اللذان سببهما لي، رغم الألم والوحدة اللذان اعتصرا قلبي بسببه... سأحبه.ربما لن تفهم الامر، لكن هذا المحيط الداكن يعني لي الكثير،
فقد كان لي بمثابة الأم والأب اللذان لم أحظى بهما يوما،
كان هو ملجأي الأخير عندما تنهكني أحزان هاجر وهمومها،
كان ما يمكنني أن أسميه مساحتي الشخصية التي أحبس نفسي فيها بعيداً عن إزعاج هاجر وأفكارها الطفولية المشوشةكان لي بمثابة رحِم الأم عندكم أنتم البشر ... ولا تعجب من كلامي فأنا لست بشرية .
ماذا أكون؟!
حسنا الأمر أعقد مما تظن، وشرحه صعب
لكن إن أردت معرفة من أكون، فألقي نظرة أخرى على فراغي الأسود،
هل ترى تلك الفتاة الصغيرة ذات العيون الزمردية؟
تلك هي أختي هاجر.
اقترب أكثر وسترى بين يديها ما يشبه النجم المتوهج ، ... شرارة من ضوء أخضر لامع ينير ما حوله مبعداً شبح الوحدة عن هاجر الصغيرة،
أنا هي تلك الشرارة،
أو على الأقل يمكنك اعتبارها الجنين الذي ولدت منه
وقتها لم أكن واعية كفاية لأدرك العالم على حقيقته، فقد كنت مجرد جنين صغير لفكرة بسيطة.
لم أكن حينها أكثر من مجرد شرارة أمل نسجها عقل هاجر المضطرب، أمنية أرادتها من أعماق روحها الممزقة، أمنية كانت مستعدة للتضحية بنفسها من أجل تحقيقها.وماذا كانت هذه الأمنية؟
رفيق ... نعم، فقط مجرد رفيق يؤنس وحشتها،
شخص تفضفض له عن همومها وأحزانها، شخص تفتح له قلبها باطمئنان وهي تعلم أنه لن يسخر منها، ليزيد جرحاً أخر على جروح قلبها الذي مزقته الوحدة، ....لَم تُرد أكثر من صديق.صديق حقيقي يبقى معها على طول الطريق،
لا يتركها أو يبتعد عنها، لا يتجاهلها إن احتاجت له.هذا فقط هو كل ما أرادته، هذا هو حلمها الصغير الذي أدركت بمرور الأيام أنه لن يتحقق مهما فعلت.
ولا تعجب من تمسكها الشديد بأمر ... قد يبدو تافهاً للبعض من النظرة الأولى
ففي نهاية الأمر هي تظل طفلة صغيرة، رأت بشاعة العالم وقسوة الحياة في سن مبكرة."ما الذي حدث؟، كيف آل بها الأمر إلى تلك الحال؟!"
أرجح أن هذا ما يدور في ذهنك الآن صحيح؟حسنا أنا لا أملك تفاصيل تلك الفترة من حياتنا، فكما قلت وقتها لم أكن أكثر من مجرد جنين صغير
لكني سأخبرك بما أذكره من أفكار وأحاسيس هاجر عن تلك الفترة،
فبالرغم من كوني أقل من فكرة مجردة حينها، إلَّا أن ذاكرتي الشبه لا نهائية اسعفتني في تذكر تلك الأيام بوضوح .وقبل أن تسأل، نعم أنا املك ذاكرة غير اعتيادية فكما قلت "أنا لست بشرية" ولا أخضع لقوانين البشر وحدودهم العقلية .... حسبما اظن.
حسنا .... بحسب ما أذكر فقد ولدت هاجر في عائلة اعتيادية إلى حد ما، أب، أم، وأخ كبير.
كما أن أوضاعهم المادية كانت جيدة جداً، لا يمكنك تخيل وضع أفضل من ذلك لفتاة لطيفة وبريئة مثل هاجر، عائلة محبة، مال كثير ، تحصل على كل ما تريد ... حياة مثالية.
أو كانت مثالية، ... إلى أن وصلت هاجر سن السادسة، وحدثت تلك الواقعة المروعة.كان الأمر قاسية جداً على هاجر الصغيرة، عقلها الطفولي البريء لم يكن جاهزأً لتحمل مثل تلك الصدمة،
مر الأمر في عينيها الزمرديتين كومضات سريعة، لقطات خاطفة لمعت كالسكاكين في عقلها الذي توقف عن العملأن ترى والديها يتعذبان بأبشع الطرق قبل أن يموتى، ..... مشاهة جثتيهما الهامدتين على الأرض،
رؤيتها لأخيها الكبير الذي تضرج وجهه بالدم بينما كان يحتضنها في صدره ليحميها بجسده الذي مزقته شظايا الزجاج والمعدن الملتهبةخروج ذاك الرجل الغامض من بين الحطام ... ونظرة الاحتقار والشماتة التي علت وجهه بينما كان يتبسم بفرح وهو ينظر إلى أربع جثث ساكنة ملقاة على الأرض .
كما ترى مشاهد كهذه ليست بالأمر الذي يسهل تحمله او نسيانه، حتى لو كانت لأشجع رجال العالم، فما بالك إذا بطفلة جاهلة في السادسة من عمرها .... طفلة لطيفة،حنونة،ساذجة،
تبكي ان رأت فراشة تموت أمامها.فما بالك بعائلتها تسقط أمام ناظريها
والديها يموتان بابشع الطرق أمامها
اخوها الكبير يصاب بجروح قاتلة شوهت جسده بعشرات الندوب والجراح المروعةبشاعة المنظر .... وشدة الصدمة،
كانتا أثقل من أن تحملهما فتاة رقيقة كهاجرقلبها الصغير انفطر إلى أشلاء
أحلامها الوردية بحياة سعيدة ... تلاشت في الهواء، ليحل مكانها فراغ الوحدة الخانقة
روحها المتألمة تمزقت الى قطع متناثرةهنا وفي هذه اللحظة ... ولدت أنا~
.
.
.
.
يتبع ....