البندقية، شتاء 1999.
استيقظت علىٰ صوت مدير الملجَأ الذي كان يخترق المبنىٰ بأكمله، فقد اعتاد علىٰ إحداث ضجة عارِمة في أرجاء الميتم كلما قرر أحدٌ زيارته، لم أكن قد أخذت قسطي الكافي من النوم لذا وقفت علىٰ مضض تجنبًا للمشكلات رغم أنّي لم أكن آبه للضيف الذي سيأتي، علىٰ عكس بقية الأطفال الذين كنت أشاركهم الغرفة، فقد ارتفعت أسقف آمالهم وأخذت الابتسامات تعلو محياهم وكأنه يوم حظهم الذي كانوا ينتظرونه.
غيّرت ثيابي البالية ولم يتسن لي ترتيب فراشي أو تناول الفطور فقد كان المدير يقف علىٰ رأسي وكأنه شرطي مرور لا ينفك أن يبرح حتىٰ يأخذني بصحبته، كان يمشي في الممر ببطئ ويضرب الأرض بقوة ويتمايل بسبب بدانته بينما كنت متأخرًا عنه بخطوات مما جعلني أضحك علىٰ طريقة مشيه الغريبة، ويبدو أن صوت ضحكتي قد وصلت أذنه فأنبني عليها بطريقة مضحكة أكثر فلم أتمالك نفسي حينها وارتفع صوتي أكثر فأكثر عندها التفت لي وقال: (أنت يا رقم 10!).
(رقم 10).. هكذا كنت أُعرف بين كُلّ العاملين والأطفال في الملجأ وكأنما لا هوية لي غير الرقم الذي أودعت به كسلعة أكثر من كوني بشرًا له كيانه الخاص، بلا انتماء أو توجه أو اسم.. فقط رقم متحرك ينام بأمر ويستيقظ بأمر، حتىٰ وقت الذهاب إلىٰ الحمام لم يكن بتلك السهولة، فلا بدّ لي أن انتظر دوري من بين صف طويل أحيانًا يستمر لساعات.
توجهت خلف المدير بعد أن تمكنت من السيطرة علىٰ نفسي رغم أنه بمجرد أن عاود المشي بطريقته الغريبة راودتني رغبة عارمة بالضحك مرةً أخرىٰ لكني لم أفعل لسببٍ ما، وبعد أن قطعت الممر الطويل برفقة ذلك البدين وصلنا إلىٰ غرفته وقبل أن يفتح الباب أخذ يرتب ربطة عنقه التي كانت تخنق رقبته الممتلِئة، ثم أصدر صوت حمحمة ودخل الغرفة متقدمًا عني بخطوات.
دخلت الغرفة التي كانت صغيرةً إلىٰ حدٍ ما، وتحوي مكتبًا صغيرًا قرب النافذة ذا درج مكسور وتكدست عليه الأوراق بطريقة مبعثرة ويتوسطها منضدة خشبية قديمة محاطة بأريكتين من الجلد الأسود، كان يجلس علىٰ إحدىٰ الأريكتين رجل يرتدي معطفًا رماديًا سميكًا جسده هزيل، شاحب الوجه كانت تصفيفة شعره غريبة وملامحه متجهمة فيبدو وكأنه يتصنع الهدوء، وإلىٰ جانبه تجلس سيدة شقراء تبدو وكأنها زوجته، ملامحها علىٰ عكسه تمامًا كانت هادئة وابتسامتها مشرقة وكأنها تنافس ضوء الشمس الذي اخترق الغرفة، كانت ترتدي معطفًا أبيض من الفرو وقبعة تغطي شعرها بأكمله.
وقفت إلىٰ جانب أربعة أطفال آخرين، وكأننا سلعة معروضة للبيع، كان البائع وأقصد به مدير الملجأ يمسك سجلًا كبيرًا كان قد كتب به كُلّ ما يخصنا من معلومات وأخذ يذكرهم إلىٰ الزوجين الجالسين وكأنه يوّد عقد صفقة رابحة عبر المتاجرة بنا.
أخذ الرجل يتفحصنا بنظراته بينما زوجته كانت تصغي إلىٰ كلام المدير وما أن انتهى من عرض سلعته -أي الأطفال- حتىٰ وقفت المرأة وتقدمت خطوات باتجاهنا وأخذت تنظر بحنو لنا، كان الأطفال الآخرين بغاية السّعادة ويبذلون قصارىٰ جهدهم لأن يكونوا الأفضل وينالوا استحسان تلك السيدة علىٰ عكسي تمامًا فلم أكن أعير اهتمامًا لما يحصل وكل ما كنت أودّه هو أن ينتهي انتقاءها وتغلق الصفقة بينهم لأذهب وأكمل نومي رغم استحالة الأمر.
بقيت الزوجة مدة من الزمن تحدق بي بينما عقلي لم يكن معها، ثم أشاحت بنظرها نحو المدير وأشارت ببسبابتها نحوي وقالت: (سآخذه!).
YOU ARE READING
مَنْسيّ | Forgotten
De Todo(رقم 10).. هكذا كنت أُعرف بين كُلّ العاملين والأطفال في الملجأ وكأنما لا هوية لي غير الرقم الذي أودعت به كسلعة أكثر من كوني بشرًا له كيانه الخاص، بلا انتماء أو توجه أو اسم.. فقط رقم متحرك ينام بأمر ويستيقظ بأمر، حتىٰ وقت الذهاب إلىٰ الحمام لم يكن بت...