من الذكريات الحزينة: صباح الثاني عشر من اغسطس , عام 20xx كنا قد احتفلنا بعيد ميلاد والدتي قبل يومين لاننا خفنا ان تحصل المصيبة قبلها ولن نحتفل (كنت اقول في نفسي او كنا سنحتفل بعيد ميلادها مرة ثانية )كان الجو ثقيلا, خالتي المريضة المقربة الى قلوبنا في المستشفى تحتضر , وامي معها . امضيت يومي في غرفتي ولم اخرج منها الا على صراخ اختي الصغيرة تناديني "روح شوف ****(اختي الكبيرة) كامت تبجي" كان قلبي قلقاً من ان أسئلها ولاني اعرف ان اختي كثيرة البكاء بلا سبب (تبين لاحقاً ان جميع الفتيات كذلك) كنت متأملاً ان يكون هناك سبب آخر. خابت ظنوني في اللحظة التي دخلت للغرفة ورأيتها , مهمرة الدموع , تحرك يديها بشكل عشوائي , ولا تدري ما تفعل , نظرت الي وشهقت. كانت تود ان تخبرني بسبب بكائها , ولكن نفسها كان منقطعاً نظرت اليها بحزم (ربما كان هذا واجب الابن الأكبر في العائلة ان يبدو قوياً) واخبرتها " قلت لك ان تغلقي هاتفك منذ الصباح! ولكنك لم تسمعي كلامي والان كيف ستقومين بواجبك؟ " لم ترد , وكانها تقول في نفسها " لا ابالي " اجتمع اخي واختي الصغرى معنا بعد ان دخلت.كانت صفعة قوية مني , ترددت في ضربها ولكني كنت اعلم ان الكلام لن يردها الى وعيها.اخذت اختي بضع لحظات قبل ان تنهض وتنقطع دموعها ثم توجهت ا لى ما يجب عليها القيام به (كان لديها شيء مهم جدا في ذلك اليوم تحظر له منذ ما يقارب ٦ اشهر ولهذا اخبرتها ان تغلق جوالها صباحا)اتصلت امي بي بعد اقل من ساعة , لا ادري ماذا اخبرها. كان موقفا صعبا علي وعليها قبل يومين احتفلنا بعيد ميلادها. فتحت الهاتف , فأخبرتني بوفاة خالتي , قلت لها اني اعلم , قالت لي احضر لي ملابسي الى بيتها سنلتقي هناك وندفنها بعد ذلك في النجف الاشرف.بدلت ثيابي , وتوهجت اليهم , سألني ابي ماذا سأفعل؟قلت له سأعطي ملابس الحزن لوالدتي.دخلت الى بيتهم رأيت اولادها , محمري العيون. كان اولادها مشهورين بين اقربائنا وبين عموم منطقتهم بكونهم رجال بما تعنيه الكلمة من معنىرؤيتهم مكسوري الخاطر اثارت غصة في فمي , حظنت أكبرهم , كان قد وضع يديه فوق رأسه وجلس على الارض , حينما حظنته وربت على ظهره بقوة , احسست اني احظن جثة هامدة , لم احس بحركته ولولا صوت انفاسه لقلت اني اعانق ميتاً.سلمت على الاصغر من بعيد , رد السلام بطريقته التقليديه , لم يختلف عن سلامه المعتاد سوى ابتسامة غابت. نهضت من جلستي ورأيت والدهم سلمت عليه , كان هذا الرجل في مواقف كثيرة مثلاً لي , رغم انه كان ريفيا (متعلما) الا انه كان مثقفاً جدا , وكثير القراءة , بشكل غريب كنت ارى فيه اخلاق العرب وثقافة الغرب. رغم لباسه المعتاد (دشداشة) الا انه يحمل فكراً كبيراً في صغري كرهته بشدة, لهجته الريفية , ملابس الغير متحظرة , ولكن كل ما كثر لقائي به كلما زاد اعجابي به فكان مثلأ بالنسبة لي.في اثناء وفاة خالي قبل عدة سنوات , شاهدته وهو يقيم الفاتحة (بمعنى العزاء) كيف نظم الامور وكيف ادارها بشكل مقتن, في تلك اللحظة اعجبت به كثيرا وانتبهت الى خصاله , لم اره مكسوراً قطفي الواقع , لم اره بغير شكله المعتاد منذ ان كنت في الرابعة وها انا في منتصف العشرينات ولا يزال بنفس الهيئة , محافظاً على اصوله و خصاله , بل ان كل من يعرفه يشهد له بأنه طالب للحق في كل افعاله.صفة تميز بها اهل الريف وبدأت افقدها يوم بعد يوم.ما ان رأيته , وسلمت عليه , توقف لحظة ونظر الي , ولكن عيونه لم تكن تنظر الي حقا. تمشى قليلاً كانوا قد عادو من المشفى قبل ساعة الا ان عدد السيارات التي اتت كان غفيراً. صاح بصوت واضح بعد ان اصبحت بيوتهم ممتلئة من النساء والرجال (عادة اهل الريف ان يسكنوا قرب بيوت اخوانهم واقاربهم)"سوف ننطلق بعد صلاة الظهر الى النجف , ونشكركم على موقفكم المشرف وقدومكم وان هذا يثبت انها كانت مرأة صالحة , مرأة محترمة" توقف قليلا ضرب يديه ببعضهما , كأنه يصفق وقال بصوت جهوري وواضح " والله مره محترمة " استدرت في تلك اللحظة نحوه , كنت اسمعه من دون ان ادير وجهي , رأيته من الخلف واقفا بشموخ كالعادة ولكن رأسه منحي نحو الارض قليلاً , سمعته بصوت خافت "والله مره محترمة" ساد الصمت لثوان (ربما ٥ او اقل ) ذلك الصوت الخافت , من ذلك الرجل الذي لم آره سوى في حالة الهدوء لما يزيد عن عشرين سنة , يقف منحي الرأس يردد ما في قلبه بنبرة تخنق كل من يسمعها. لا اظني سأنسى هذا الموقف , فقد كان مؤلماً لدرجة اني احسست دموعي تكاد ان تخرج رغما عن انفي.توجهنا الى النجف بينما اخذت عشرات السيارات تلحق بنا , ربما مئة لا ادري كثر كثر. ومن بقي بدؤوا بتحظير الغداء والعشاءفي النجف الاشرف , عصر ذلك اليوم.على قبرها قرأ القارئ وبدأت اصوات النساء تعلوا , ميزت بعضهن ولم اعرف الاخر ولكن بعد ان انتهى كل شيء , وساد الصمت سمعت صوت جدتي تعلو بالنحيب. , جدتي التي حينما قبلتها يوم وفاة خالي وقلت لها "البقية في حياتك " اجابتني "ابقى اعيش؟ ولدي كلهم ماتوا بس بقى اشوف بناتي يموتن"كانت جدتي آمية (بمعنى لم تدرس) ولكنها تعلمت القرائة من الاستماع للقرآن ومقارنة الاحرف (بنفسها) ولكنها رغم ذلك كانت قادرة على حفظ القصص من اول مرة تسمعها, وايضا قادرة على حفظ الشعر والاهازيج حتى بعد ان سمعتها ب٥٠ سنة او ما يقارب ذلك. كان امرأ مدهشاً بحد ذاته ان تكون لديها هذه الامكانية حتى بعد ان وصلت قرب ال٨٠ من عمرها.ولكن ما سمعته في ذلك اليوم , لم يكن اهزوجة بل كان شعراً شعبياً (بمعنى شعر مكتوب باللهجة العامية) ادرت وجهي نحوها , خدودها محمرة من البكاء , وعيونها تكاد تبيض مثل يوسف , صوتها لم يكن واضحاً فأقتربت اكثر , حينما اصبح واضحاً , كان شعراً يقطع القلب ولكنه كان اكثر من ذلك , كان مليئا بالمشاعر , مليئا بالذكريات , حتى بعد ١٠ ثوان انتبهت الى انهى تسمي ابنائها في البيت الشعري , ثم تختمه بأبنتها , كان ذلك الشعر رثاءً من القلب. جدتي التي تكاد تكمل ال٨٠ من عمرها , تصبح شاعرة في رثاء بنتها الكبرى , شعرٌ جعل دموعي في محادقها. كانوا قد بدؤوا بألقاء التراب , حتى تقدم زوجها وبدأت يتكلم عنها بالخير والمحاسن ثم وصل "ها يا **** (نادى بأسمها ) راح تعوفيني؟ هاي اول سفرة نروح سوه ورح ارجع وحدي" لم يبكي هو ولكني تذكرت. منذ ان كنت صغيرا وحتى قبل شهر , كانوا دائما معاً , في الحج في السفر في الزيارة في الاعياد في المناسبات , بل اني لم ار رجلاً ياخذ زوجته معه في كل مكان غيره.كانت التلك القشة التي قسمت ظهر البعير بدأت دموعي تنهمر وانا اراه يحدق بالتراب المنهر على قبر زوجته.