لهفة وطن

5 0 0
                                    

كنت في وطني طفلا صغيرا أحب القراءة والكتابة،كنت من أذكى طلاب المدرسة،وحين أعود إلى البيت كانت تستقبلُني والدتي وهي مُشتاقة لي،تحتضنني وتقبلني بلهفة وكأنها لم ترنِ منذ سنوات،فوالدي هو من زرع فيّ حب القراءة والكتابة،ولكن لهفة والدتي،وتعليم والدي لي وإصراره على تعليمي كانت تعني ليَ الكثير،فكانا يعنيان الأمرين من أجل تعليمي،وكان يُخالجني شعور أن أمراً سيحدث،ولكني لا أفقه شيئا مما سيحدث في الخفاء؛فهما لايريدان إخباري بشيء فدائما ما يتهامسانِ إلى بعضهما بأشياء غريبة،ومن ثم دعاني والدي للذهاب إلى صديقه من أجل أن أتعرف عليه،وذهبت معه وهناك التقيناه كان شخصا لطيفا،ولما رجعنا إلى البيت قال لي ،أبي:يابُني،اعلم أنك صغير على هذا الكلام،ولكن هناك خبر انتشر في بلدتنا فإن كان صحيحا كان واقع الخبر علينا كالصاعقة،ونحن ننتظر،ومضت الأيام وكلما مضى يوم كان قلبي يرتجف خوفا من ذلك اليوم،فماذا سيحدث في ذلك اليوم؟،وماهي الصاعقة التي ستحل بنا؟،وفي اليوم التالي دخل والدي مسرعا،وحمل سلاحه،وكان معه عمي، وقال لي ، جاء ذلك اليوم يابُني،وكأنما توقف قلبي فجأة مخافة هذا اليوم فجسدي لم يعد قادرا على الحركة،وكان والدي قويا حاملا سلاحه،وقال يابُني،جاء العدو كي يسلب منا وطننا،ولكننا لن ندعه ولو متنا جميعا ! فالموت أهون من أن يذلونا،وهم لديهم من يدعمهم،وحقنا على وطننا أن ندافع عنه حتى آخر قطرة من دمائنا،وذهب إلى ساحة المعركة،وكانت البيوت تتساقط،وهدمت البيوت بكل سهولة ويسر،والنسآء يصرخن خائفات وصوتهن قد بلغ عنان السمآء،وأما الأطفالُ فكانوا يبكون دون معرفتهم بشيء مما يحدث في ساحات القتال وكانت والدتي خائفة أن يصيبني مكروه فكانت دمعاتها تتساقط على خدها كما تتساقط دماء الرجال في المعركة،وكان بيتنا يهتز بقوة من ضربات العدو، واستمر القتال إلى أن لجأ العرب إلى هدنة بيننا وبين عدونا الذي يريد سلبنا أرضنا وهذه الهدنة قسمت ظهورنا وضعفتنا أمام عدونا،وقد وقع ما لم نكن نضع له احتمال،واستغل العدو هذه الهدنة كي يدعمه حلفاؤه بسلاح جديد،وبهذه الطريقة فقط انتصر علينا عدونا! وفي ظل هذه الأحداث دخل العدو إلى أرضنا،فما كان -بعدذلك-علينا إلا الرحيل منها مهاجرين إلى أرض غير أرضنا،وكان المهاجرون كثر لا نستطيع عدهم،كانوا من كل بقعة من الوطن المسلوب،وكنت وأمي نمشي لا نعلم ماهو مصيُرنا وتلفتُّ إلى الوراء بنظرة وداع للوطن الحبيب إلى قلبي،إلى الوطن الذي وُلدت فيه ولم أعرف وطنا غيره،فأحسست أني تركت قلبي في الوطن الذي كان لنا فأصبح لعدونا،ولَعَمْرِ إن فراقه صعب كافتراق الأم عن ولدها،وبينما نسلك في طريق الفراق سقطت قذيفة ففرقت بيني وبين والدتي؛فضعت بين الناس لا أدري ماهو المصير الذي ينتظرني،وهل هذا هو المستقبل الذي كنا ننتظره،دمار،وخراب وسقوط وافتراق بين الأحبة ويأسٌ بعد يأس! وفي أثناء سلوكي للطريق مع الناس عثر عليَّ رجل قال لي:أين أهلك ياصغير؟! قلت :لا أدري،فقال:فلتذهب معي،عسى أن نجد أهلك وكان في ذلك الحين الناس قد قرروا بناء مخيمات للاجئين،وكان ذلك الرجل يعاملني بلطف كابنه فلما وصلنا خيامنا كانت أحزاننا،ودموعنا،ولهفتنا للوطن أكثر من أي شيء،وقد جعت ونال مني التعب،فذهبت في طريقي للخصول على الطعام،والحصول عليه كان صعبا كبقية ضرورات الحياة وفي ظل الظروف القاسية،وجدني عمي بعد فراق دام أسبوعين،ففرح فرحا شديدا رغم حزنه،وطانت دموعه دليلا على ذلك فشكر عمي الرجل الذي أحبني كابنه ورجع بي إلى خيمته ويبدو عليه الحزن ودموعه لم تتوقف ولما جئنا قال لي:يابُني! إن أباك قد مات شهيدا في ساحة المعركة دفاعا عن وطنه بعد صراع مع العدو لخمسة أيام،وأمك قد ماتت حسرة عليك بعد ضياعك بأسبوع فكان كل يوم يمر عليها يزيدها ضعفا ويأسا ،وموت والدك هو الذي شارف بها على الموت ولكن كانت تظن أنك ستعود إليها يوما فيصبرها ذلك إلى أن قضى اليأس على كل أمل فيها ،وذلك الوطن الذي فقدته نظرة له بلهفة قبل أن أترك قلبي فيه،واما وطني الذي فقدني لم يترك لي إلا روحا طاهرة لا تزال باقية في جسدي .

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 17, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

لهفةُ وطن حيث تعيش القصص. اكتشف الآن