لم تعتد يافا وجود اخٍ لها يشاركها جميع ما تملك ،
حتى غرفتها!
ففي المخيّم ، كل بيتٍ يحتوي على غرفة واحد مع مطبخ ، كانت الشبابيك تطل على جدران مليئة بالشعارات الحزبية التي يقتدي بها أبناء المخيم.
جدارننا كانت تحكي معاناة كل منا ، بعضنا جاء من بلده وأخيه مفقود ، والبعض الاخر ابوه شهيد أو أسير أو لا يعلم له مكاناً .
كانت تمتلئ هذه الجدران بشعارات فتح ، وأسم أبو عمّار ، مع رسمٍ لحنضلة!
لمَ كان حنضلة يعبّر عنا وكيف ؟ فهو عبارةٌ عن رسمٍ على ورق! ما الذي كنا نراه فيه لنتأثر به كل مرة بالحد الذي لا نكاد نصدق به أن حنضلة مجرد رسم ؟
فقد كان ينطق عنا جميعاً ، ينطق عن كل اللاجئين والنازحين والمشردين، في كل مرة كنت اسأل أمّي عن عمر حنظلة ، كانت تخبرني أنّه يبلغ من العمر عشر سنوات ، وفي كل سنة أعود وأكرر لها السؤال لتقوم بإجابتي بنفس العمر ،
كنت استغرب احياناً واظن أنّ امي تهذي!
من منا لا يكبر ؟ هل هو خارق للطبيعة ليس من البشر ؟
اكتشفت بعد ذلك انّ جميع من رحلوا من بلادهم ، توقفت اعمارهم عند تلك الحظة ، حينما رأت تلك الطفلة الدبابة تقتحم بيت جدها لأول مرة!
او عندما رفع ذلك الصهيوني السلاح أمام شموخ أبي .
كانت تلك المشاعر المحتدمة تميت كل اهالي المخيم ، فكنت ارى تلك العجوز تتعامل معنا وكأنّنا لا زلنا في ارضنا ،
حنظلة لم يكن يسير معنا في المظاهرات ، لكن رسومه كانت تُرفع فوق كل شعارٍ ثوري ، وأيضاً لم يكن يجلس معنا على مقاعد الدراسة لكننا جميعاً نهرب إليه حينما نسأم من رتابة الحصص والملل ، فيتباهى كل منا برسمه ، ومن منا أتقنه اكثر ، تنتهي هذه المناوشات عادة بعراكٍ ينتهي بصفعةٍ من المدير او (فلقة) ،وما لم يتغيّر : حبّنا لحنظلة واحترامنا له .
في كل ليلة كانت أمي تجتمع مع نساء الحي في مربع بيت جارتنا ام علي ، كانت تقوم لتقطف بعض البرتقال من الشجرة التي بحديقتها!
كل يوم تأكل أمي من تلك البرتقالة ، وتردد عباراتها المعهودة "برتقال بلدنا ازكا " حتى انني في بعض الايام كنت اقف بجانب امي عند تناولها من تلك البرتقالة متعمداً ، كي اسمعها ترنم تلك العبارة على مسامعهن ، يوافقنها التأكيد ، وتهز الاخريات برؤوسهن ايجابا! هناك حسرة تتغلغل في كلام امي!
وبعض الدموع التي تحبسها ، تخرج من بين يديها وهي تعصر لي ذاك البرتقال فينوب عنها بالبكاء ، وحينما اسأل امي عن جدي تهمس لي قائلة : جدك كان بطل ، مات وهو بدافع عن ارضنا!
الوصف ليس دقيقاََ ، فمن ذاق مرارة التهجير لا يمكن له ان يصف فظاعة المشهد لصغيرٍ لايعرف شيئاََ عن مقدار ذاك الاسى ، ولا يمكن لعقله ان يصدق مقدار الاذى الناتج عن تلك الحرب!
لكن امي كانت مختلفة ، كانت تصف المشهد حاضرةً به ، وكأنها تحملني وتهرب وهي تتلاشى رصاص العدو ، وتسير نازفةً بجرحها فوق اكوام الحجارة المهدومة ، فوق ركام بيتها حيث طفولتها ، يحدث ان يتحطم كل شيءٍ ملموس يذكرك بالماضي ، لكنك تظل تذكره وكأنك لا زلت تحت انقاض تلك الفاجعة!
لا زلت لليوم اذكر تاريخ 11 نوفمبر 2004 ، باجواءه الخريفية ، حيث كانت امي تشاهد التلفاز ، وتعد الطعام بسرعة ، كانت تقوم بأكثر من مهمة في نفس الوقت ، ذهبت لاعاين عن بعد اولاد الحي ، وان كانوا قد بدأو باللعب وانا لست معهم ، لم اجد اياً منهم فارتاح قلبي ، عدت لأرى امي تتراشق دموعها من كل حدبٍ وصوب!
ظننتُ ان احد جاراتها توفت ، لكن حدسي كان خاطئاً ، وقفت امامها مصدوماً ، فلم اعتد يوماً بكائها! ولم اتوقع للحظة ان اراها ضعيفة للحد الذي رأيتها به اليوم!
ماذا حدث ، كانت شاخصةً امام التلفاز ، تشاهده ، تشهق ب تعب ، وتتنهد ، تعود ل سيمفونية بكائها غير المنقطع
تلقائياً توجهت بنظري للتلفاز لـ ارى ما الذي يخيف امي للحد الذي يجعلها تنهار!
"رحيل القائد الرمز المعلم الرئيس الشهيد ياسر عرفات ، رئيس دولة فلسطين -رئيس لجنة التنفيذية -رئيس السلطة الفلسطينية ، انا لله وانا اليه راجعون ، شاركت امي بكائها ، لم احضر استشهاد ابي ، ولم ابكي عليه ، فأتي خبر استشهاد ابو عمار ، واستردت مني هذه الصاعقة دموع ابي المحسورة داخل مقلتي ، ودموعي على موتِ اخر املٍ كان لنا بالعودة كما تقول امي....