في إحدى قاعات الأفراح الفخمة، تقف فتاة تحتضن روايتها بحب، تنظر إلى كل شئ من حولها بعين غاضبة، مترددة الدخول، تحركت بخطى بطيئة تلوم نفسها التي وافقت على الحضور، حتى ترضي ولدتها، تتحرك وهي تغتال روحها لهذا الذنب الشنيع، حدثت نفسها بصوت هامس:
- كيف لي أن آتي لحضور مثل هذا الفرح اللعين؟ الذي لا ينقصه الا الخمور، كيف لي أن أغضب رب العباد بالتواجد في هذا المكان، وارتكب هذا الإثم من أجل أن أنول رضاكي يا أمي؟.. أتمنى أن يسامحني ربي، ويغفر لي هذا الخطأ.
برغم من تأنيب ضميرها، تقدمت ودلفت للداخل وهي تزفر أنفاسها بقوة، تسير برداءها الزهري الطويل، مرتدية حجابها الأبيض وبداخله ورود زهرية تزيد من جمالها، صافحت كل من في الحفل بحياء شديد، عيناها تنظر لأسفل، لم ترفعهما قط، ليس لأنها مخطئة، لكنها تغض البصر، جلست بجوار والدتها بهدوء، فأردفت والدتها بهمس، وهي تضع يدها اليسرى على ثغرها وعيناها تراقب جميع من حولها:
- ده اللي وصيتك عليه يا ايلا.
- ماما أنا خديجة مش ايلا.
أجبتها ابنتها بوقار واحترام، فرفعت والدتها مقلتيها تتفحصها بوجوم، وجزت على أسنانها، وداخل مقلتيها عتاب، لكنها أردفت بابتسامة مستعارة:
- اهلا اهلا خديجة، ماخدتش بالي.
*****
يجلس شاب بملامح مصرية، على طاولة أخرى في وسط مجموعة من الفتيات، يضحك بقوة ضحكة تبرز اسنانه اللؤلؤية، تجعل كل الفتيات من حوله يعجبون به، ظل يتبادل الحديث معهم بوقاحة يطلق عليها جراءة، نهض من مجلسه عندما رأى خديجه التي أسرته بوقارها، اقترب منها بابتسامه جذابه:
- مسا مسا على أحلى مديرة.
كان يقولها لمديرته، لكن عيناه كانت تتشبث بأبنتها، ابتسمت لهذا الموظف المشاغب دائماً مع كل من يعمل معه، لكن الجميع يتقبله ويحبه لشخصه المرح والطموح.
تحمحمت ثم زردت ريقها، بعد أن لحظت تطلعه الزائد لإبنتها تقول:
- دي بنتي عائش..
قبل أن تنتهي والدتها من حروف الاسم، وكزتها بجانب خصرها متفوه بهمس:
- خديجة يا ماما.
- احممم، بنتي خديجة.
فور ما تمعن في النظر عليها بتركيز، شرد في ملامحها الرقيقة؛ وجدها فتاة بسيطة، لاتضع أيا من لمسات التجميلية، تستر نفسها من أعين الناس، صوتها كالليل يسرق العالم بهدوئه مع شعاع القمر، بسط يده يسلم عليها، لكنها اخبرته باستحياء وهي تحرك أصابعها على بعضها بخجل:
- بعتذر لحضرتك، مش بسلم على رجالة.
ابتسم رغم احراجه أمام الجميع، ارجع شعره للخلف مرددًا بابتسامة أعجاب:
- ولا يهمك يا آنسة خديجة... آنسة صح.
- احممم، أممممم.
أجابته بدون أن ترفع عيناها نحوه، وأخرجت بالكاد صوت من حنجرتها فقط، بدون أن تفتح شفتيها، فرد عليها بفرحة:
- آنسة، وأكيد مش مخطوبة؛ لأني مش شايف دبلة في إيدك اليمين، وقلبك كمان بيقول إنه خالي، صح؟
عضت شفتها السفلى بخجل، من كثرة حديثه، جعلتها تنطلي بالون الابيض خالي من الدماء، ثم اومأت برأسها تأكد له ظنونه، قلبه تراقص من الفرحة كالطفل الصغير الذي يفرح بلعبة كان يحلم بها طوال حياته، برغم كثرة الألعاب المبعثرة أمامه في كل إنش حوله.
انسحب وهو يحمد ربه على إعطائه أجمل حورية على الأرض، ستنير حياته بالتأكيد، وعد نفسه أنه سيتغير من أجلها.
بعد فترة إنتهى الحفل، لم تتزحزح أعين زين من عليها، تراقب حراكاتها وسكناتها طوال مدة الحفل، يلاحقها أينما كانت لحظة بلحظة، وحينما وصل بيته، ظل ينادي بصياح:
- مامااااااا، دعواتك هلت على راسي، فينك يا ست الكل.
- وبعدين معاك يا ولد في الدوشة دي؟
قالتها بحنان امرأة كبيرة، ملامح وجهها أصابها الزمن بالإنكماش، لكن مازالت تبدو جميلة؛ بسبب طيبة قلبها وروحها؛ التي تربت على كل حزين يلجأ إليها.
- ابنك اخيراً هيترقى من ولد لعريس، عشان تعرفي بس إني مش عنيد ومش متهور ولا طايش، أنا اهو اقتنعت بكلامك معايا الصبح.
ضاقت عين ولدته باستغراب، أكمل حديثه بتوضيح، وهو يضع كف يده خلف ظهرها المنحي قليلا، قائلا بمزاح، بتقليد صوت أمه العجوز:
- عايزني أبطل أقول يا ولد؛ يبقى لازم تترقى وتتجوز.
ثم أزاد بجديه وهو يسمك يداها التي تخللتها خطوط الزمن:
- وده طبعا لما لقيت بنت الحلال اللي تناسبني وتناسبك.
جحظت عيناها وفتحت فاها متحدثة بفرحة عارمة:
- هتتجوز !
هبطت دموعها، وهي تفتح ذراعيها بحنان، رمى رأسه على صدرها الدافئ يخبرها وهو يمسح دموعها:
- بكره هنروح نتقدم لأجمل وأرق بنت في العالم كله، كنت فاكر كل البنات شمال، بس الحمدلله يا أمي ربنا بعت ليا بنت أخلاق ورقة وجمال، كل حاجة حلوة فيها، فرحتي بيها متتوصفش.
ربتت على ظهره وهي تبتسم ابتسامه ذو مغزه، رفع رأسه من حضنها، فأبلغته بلوم:
- بس أفتكر اللي كنت بتعمله في بنات الناس مكنش شوية.
- أمي أنا مضربتش واحدة على ايدها.
قالها باقتناع وكان يفتح يده في الهواء، ويرفع حاجبه الأيمن بتبرير، أجابته بهدوء مخادع وهي تتحسس ذقنه بيدها اليسره:
- الغاية... لا تبرر الوسيلة، أما كل ولد يعمل زيك، تقدر تقول نجيب لسيادتكم منين بنات أخلاق واحترام؟! ولا ساعتها نفصلهم بالسنتي.
احتدت ملامحه بغضب لفظاظة حديثها:
- أمي !! بلاش نتكلم في الماضي، أنا هخطب بكرة، وفي أقرب وقت هتجوز.
- ربنا يسعدك يابني، بس قلبي مش مطمن.
- لا عايزه يطمن ويرتاح كمان؛ لأن دعواتك يا ست الكل بتلازمني دايما.
ربتت على كتفه وذهبت تحضر له العشاء
****
مضى قمر البارحة، وأشرقت شمس اليوم بخيوطها الذهبية الخلابة، ذهب زين إلى عمله بوجه سعيد، عندما وصل إلى مقر عمله دخل إلى مكتب مديرته، والدة خديجة قائلا بمشاكسة:
- مديرتنا الغالية الكبيرة أووي أووي، ومشرفانا في كل حته، كنتي إمبارح زي القمر، بنات الفرح كله كانت هتتجنن منك.
نزعت نظارتها الطبية، وتركت قلمها على مكتبها، ورمقته بعبوس مصطنع تخبره:
- زين واضح أوي أن ورا كل المقدمة دي طلب، اتفضل قول... ولا أقولك أنا، خالك اللي اصلا مش عندك من الأساس مات للمرة الألف ولازم تحضر الدفنه صح، ولا مخلصتش شغلك ومحتاجني إني مطلبش منك النهاردة اي تقرير.
أطلق عنان ضحكاته المشاغبة، وهو يهز رأسه يمينا ويسارًا ويبلغها بتوضيح وهو يمسح طرف أنفه:
- بنتك.
- نعم يا خويا!
قالتها بحده وهي تقف وتضع كلتا يداها على مكتبها بقوة، أجابها بتوضيح:
- أقصد عايز أخطب بنتك.
- اها الكلام على كده، يبقى حضرتك تشرف البيت وتتكلم مع أبوها، تمام.
بعد ما انتهت مما تفوهت به، حدقت عيناها بصدمة:
- بنتي!! مين فيهم؟
- خديجه يا مديرة.
تحمحمت وهي تحاول تخرج صوتها، بقول:
- تمام.
- تمام واحده بس، ده تماااااامات كتير اووي.
وقبل أن ينصرف، أخذ منها ميعاد في الثامنة مساءً، وفي الوقت بالتمام، يقف هو وأمه أمام أعتاب منزلهم يقرع على الباب، نهض والدها يفتح لهما، وبداخل صدره قلق وتوتر، وبعد التصافح دخلوا يجلسون، عرفه بنفسه وقام بالتقدم لخديجه، كان الأب حالته على ما لا يرام، فلاحظ الضيوف تصبب حبيبات عرقه، وتهتهته في الحديث، لكنهما تجاهلا الوضع، المسيطر على والدها واختها الكبيرة ايضاً ، بعد نقاشات كثيرة قامت الأم تأخذ رأي ابنتها في الجواز من زين، وتطلب منها أن تسلم على والدته، فتقول خديجة وهي تلعب بأناملها بإحراج:
- موافقة عليه مادام بابا موافق، لكن أطلع وأسلم ده مستحيل.
تأففت من عنادها وإصرارها على ماتفكر به، فتحاول إقناعها:
- يابنتي بلاش تتعبي قلبي معاكي، زين هيبقى جوزك.
- إيه اللي بتقوليه ده، لايمكن طبعاً اطلع، وعشان يكون في إعتباركم، معنديش خطوبة والكلام الفارغ ده، جواز على طول.
- جواز !!
رفعت رأسها كالملكه بشموخ وقالت بتأكيد:
- أيوة جواز.
خرجت من غرفتها تمسك رأسها؛ يكاد أن يكون وضع بداخلها قنبلة نووية سوف تدمرها إرباً، تنظر للجميع وهي ترسم ابتسامة مستعارة تبلغهم:
- هي موافقة ؛ بس بنتي عندها تحفظ ديني شوية، وطالبة جواز على طول.
أسارير الفرحة لمعت في عين زين ووالدته، فيرد بسعادة:
- طبعاً موافق، شوفوا المعاد اللي يناسب حضراتكم.
- خليها في حدود شهر.
نكزت والدة العروس زوجها، تخبره بصوت مهموس:
- شهر إيه ! إحنا ناقصين فضايح.
ثم نهضت على الفور تمسك كتاب سرقته في الصباح من غرفة ابنتها ونظرت عليه نظرة سريعة، ثم رجعت تجلس مكانها، تردف بصوت يسمعه الحاضرون:
- خليها بعد ١٥ يوم كده هيبقى معاد مناسب ليها جدا.
بعد الخوض في جميع التفاصيل رحل زين ووالدته إلى منزلهما، قائلة أمه بتعجب:
- غريبة، أول مره أشوف حد يجوز بنته بالسرعة دي، دي حتى البت مطلعتش تسلم علينا.
- أكيد مكسوفة يا أمي، هي متدينة جدا، ولما تشوفيها هتحبيها، وأكيد الجواز بسرعة من واحد وقح زيى أكيد أفضل من الخطوبة.
قال أخر جملة وهو يضحك بقوة، لوت شفتيها لليمين واليسار بسخرية "أيوه زي ما عملتوا كده بالظبط":
- طبعاً، ده أنت ممكن تفقدها التزامها، وتبخر كلام ربنا من عقلها، وترجع تقول، اووو طلعت زيهم مستحيل اتجوز واحدة سلمت نفسها ليا.
أطلق عنان ضحكاته من قلبه مرددا بمكر:
- والله أنا غلبان، وفكرتك عني غلط في غلط، واهو ربنا تاب عليا بفضل دعواتك.
- ربنا يصلح حالك يابني، سبني بقى أقوم أكتب كل لوازم الفرح.
مسك يدها يسألها، بعد أن شرد بعقله كالطيور المهاجرة التى تسافر مسافات بعيدة ولا تقف ابدا:
- الغريب اللي هموت وأعرفه، ليه أمها بصت في كتاب وبعدها قالت لينا ميعاد الفرح.
تبسمت وهي تضع يدها على شفتها بإحراج قائلة:
- يادي الكسوف، بس يا ولد هتفهم بعدين.
- والله ماهسيبك، حتى لمحي أنا زي إبنك برضو.
- أكيد مسجلة فيه ميعاد ميعاد... يادي العيب، أبعد عني يا قليل الأدب، بكره هتبقى مراتك وتبقى تعرف اللي عايزه تعرفه منها.
قالتها بتلعثمت وهي تفكر كيف تقول له، فرد عليها بجرائه:
- قصدك يعني العذر الشهري.
القت عليه وسادة صغيرة وذهبت من أمامه .
جلس بأريحية يفتح فاهه بابتسامة محدثا نفسه:
- أهم شئ تبقى ليلة بيضة وبفيونكة من أول يوم.