قطار المساء

2 1 1
                                    

قصة قصيرة
قطار المساء
سارعت خطواتها قليلا، أملا باللحاق بقطارها المعتاد لتذهب للمدينة التي بها جامعتها، دقات قلبها تتسارع، لا تدري لماذا؟، هل خوفا من التأخر؟، ام من عدم اللحاق بالقطار؟، وحتى وان لم تفعل لا يهم، القطارات كثيرة، وصلت إلى الرصيف المنشود، ولم تجد قطارها، ترى هل ذهب وفاتها، ام أنه على وصول، سألت أحد الأشخاص العاملين بمحطة القطار فأجابها أنه على وصول، وفعلا وصل بعد دقائق قليلة، ولكن نظرت الي ساعتها، ليس هذا موعده، لايهم المهم انها لحقت به،
توقفت العجلات بجانب الرصيف الذي لم يكن ممتلئا بالأشخاص كعادته من الطلبة والطالبات، والموظفين العائدين للمدينة، في هذا الوقت من المساء، وركبت غافلة عن اختلاف هيئة القطار من الخارج، وما ان دخلت، وسارت خطوات قليلة، حتى صدمت! انه لايشبه قطارها الذي اعتادت عليه كل مرة، انه مختلف تماما، حتى الأشخاص مختلفون، أين الطلبة والطالبات الذين اعتادت وجوههم في كل مرة؟ ، ومن هؤلاء العساكر والضباط؟ ابتلعت صدمتها، وحاولت الجلوس بأقرب كرسي فارغ، وهي تشعر انها دخلت معسكرا للجيش، هدأت اعصابها قليلا حينما لمحت فتاة تجلس الي كرسي، وبجوارها شاب يبدو أنهما شقيقان، جلست مقابل الفتاة وسألتها عن وجهة القطار للتحقق، فأكدت لها أنه ذاهب للمدينة المنشودة.
أخذت تهدئ من توترها بمراقبة الطريق الزراعي الجميل،  والتمتع بنسمات الخريف العليلة التي تلامس وجهها الجميل، في رقة، وتداعب حجابها الطويل، لفتاة أتمت لتوها عامها الثامن عشر،وعندما نزلت الفتاة الأخرى وأخوها لمدينتهما، شعرت بالوحدة، وازداد هذا الشعور حينما تيقنت من عدم وجود فتيات اخريات في هذه العربة ،ومن هؤلاء العساكر هل هناك استعدادات لحرب قادمة!، ام ماذا! كان هذا سؤالها لنفسها في سذاجة.
عندما اقترب ميعاد وصولها جاء الكمسري ،وجلس  في مقابلتها، يبدو على ملامحه الطيبة والوقار، وانه في عمر والدها ،فاطمأنت اليه انه ليس بشخص يريد المعاكسة ممن تقابلهم يوميا في القطارات، وقبل ان تتوقف عجلات القطار، سألها الرجل في طيبة" انت نازلة اسكندرية يا بنتي"؟، فأجابت، نعم، فقال" طب اتفضلي انزلي" تساءلت في نفسها: "ولكن ليست هذه المحطة التي أريدها "؛ فانصاعت له، ولم ترد مجادلته حتى لا يشعر بسذاجتها، وقفت لتعد العدة للنزول ،وعندما وقفت على باب العربة ،وقد بدأ القطار في التهادي شيئا فشيئا،نظرت خلفها فوجدت طابورا طويلا من العساكر والضباط الشباب، احمر وجهها خجلا، وارتعدت مفاصلها ،وبنظرة سريعة على الرصيف، وجدته ممتلئا، كأنما قاموا باستدعاء كتيبة من الجيش لاستقبالها في هذه المحطةالغريبة، التي تراها لأول مرة، توقفت عجلات القطار، وهي في صدمة مما تراه، تشعر بعجز قدميها عن التحرك، وايقنت انها ركبت قطارا آخر بالخطأ، همس أحد الشباب في احترام:" اتفضلي يا آنسة"، وكأنما كلماته دفعتها دفعا لمصيرها، ونزلت من العربة وهي تبتلع ريقها بصعوبة كبيرة، سارعت على الرصيف الغريب عنها بخطوات مترددة مرتعدة أين أنا، ومن هؤلاء الشباب الذين يحدقون في باستغراب، وعندما اقتربت من نهاية الرصيف، كانت الأفكار تعصف برأسها، فلا يوجد مارة تسالهم او محل تجاري، تكلم صاحبه، يبدو المكان وكأنه مقطوع سوي من السيارات السريعة، شعرت بمن يسير خلفها، يا إلهي، انهم شابان يتهامسان لابد أنهما يتحدثان عنها، ولما صارا بمحاذاتها سبق أحدهما الاخر وذهب، وناداها الآخر قائلا:" آنسة انت رايحة فين؟"، ابتلعت ريقها في توتر فهي غير معتادة على الحديث الي الرجال، والي الشباب خاصة، فهي تتحاشاهم كأنما تتحاشي مرضا معديا، خفضت بصرها، وقالت في توتر:"المفروض ان نازلة محطة سيدي جابر"، واستطردت في ذهول، "بس معرفش انا فين او ايه القطر دا"،
قال الشاب الذي يبدو عليه سيما الطيبة:" دا قطر عسكري، وكويس انك نزلت، لانه هيكمل ويروح السلوم"، وعرض عليها ان يوصلها لموقف سيارات تأخذ منه سيارة الي وجهتها المنشودة، فأشارت في صمت بالموافقة، وسارا في طريق مواز لرصيف القطار، في داخلها نشبت حرب ضارية،" كيف تسمحين لنفسك بالسير مع شاب وغريب في هذا الطريق الخالي الا من السيارات"، فردت على نفسها:" وماذا كنت سأفعل، لا يوجد أحد اسأله عن الطريق، أو كيف أصل الي وجهتي، ألا يستحق الشكر على عرضه الذهبي بايصالي الي السيارة"، وقطع أفكارها المتحاربة، تعريفه لها عن اسمه ومدينته ، و سؤاله لها عن اسمها، ومدينتها، فلم ترد ولاذت بالصمت خوفا منه، ويبدو انه شعر بخوفها،فأكمل:" انا معجب بأدبك،  وجمالك، وعايز اعرف عنوانك، عشان اتقدملك"،
هل قال ذلك حقا؟، ام انها تخيلت، أحست بدلو من الماء البارد سكب عليها، انها المرة الأولى التي يعترف لها شاب غريب باعجابه بها، وبأنهاجميلة، وبدأت الحرب مرة أخرى، ما هذا هل جن هذا الشاب، ام يحاول استدراجها لشئ ما في نفسه، كيف يدري أنها مؤدبة!، هل لمجرد أنها ترتدي حجابا طويلا، وملابس طويلة تصل للأرض!، وما أدراه أن تفكيره ليس سطحي، يأخذ بالمظهر فقط؟، أم تراه جذبه جمالها!، وهذا مالا تقبل به، الانجذاب لمجرد الجمال .
ألجمت المفاجأة لسانها عن الكلام، فلا تدري ماذا تقول؟، اتعطيه ما يريد من معلومات، فتكون فتاة سهلة ترد على أول طارق يعجب بشكلها، ام ماذا تقول؟، لكنها تشعر بالطيبة والصدق، والاحترام، في نبراته، وملامحه البريئة التي خجلت ان تتحقق منها.
مرت دقائق طويلة، وهما يسيران في هذا الطريق، وافكارها تعصف برأسها، ويبدو أنه يئس من ردها، وترجم صمتها رفضا،  فقال معتذرا:"انا آسف لو كنت ضايقتك، هوصلك للعربية ومش هتكلم تاني."
انه كبرياء الرجل الشرقي، لكن ماذا تفعل؟، هل تخبره بأفكارها التي تتحارب في رأسها! ، وكيف تخبره انها المرة الأولى التي تتحدث وتسير مع شاب غريب، وهي المعروفة بخجلها الشديد، وتذمتها من ناحية اختلاط الفتيات بالشباب، تذمتا نابعا من احترامها لنفسها، وتربيتها المحافظة التي لا تقبل ذلك، كيف لم يفهم ذلك من هيئتهاالمضطربة، وملابسها المبالغة في الحشمة، أرادت ان تتحدث ان تقل شيئا حتى لو كان اعتذارا مؤدبا عن طلبه، بداعي الخوف من الغرباء، ومن الشباب الذي تأصل في نفسها، وانتهى الطريق الطويل بعبور طريق سريع مقاطع له، فعبر قبلها حتى يتسنى لها العبور، دون أن يحاول لمس يدها، او مضايقتها، سأل عن سيارة توصلها لوجهتها، ووقف حتى اطمأن لجلوسها فيها، دفع أجرة السائق، ونظر لهانظرة أخيرة، مودعا، ملوحا لها، فبادلته  نظرة  بأخرى، مودعة، متأسفة، ودقات قلبها تتسارع، هل كانت مصيبة في صمتها؟، ام اخطأت؟ ، أرادت ان تنزل من العربة، وتناديه وتحدثه، لكنه الخوف، وقف حائلا دون ذلك، كم راقتها كلماته البسيطة، وأدبه الجم في التعامل معها، بعد أن فقدت ثقتها في نفسها، بسبب ابن عمها، تجاهل حبها له، وسافر بعيدا دون أن يخبرها بسفره، بعد أن اعترف لها بحبه، كيف! وقد جاءت أفعاله مغايرة لما يقول، فترك قلبها جريحا، يبحث عن دواء، وروحها منكسرة، تتمني، فرصة أخرى، تحلق بها في آفاق الحب من جديد، وحين واتتها الفرصة، جبنت، وجرحت من حاول أن يتقرب منها، بصمتها.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 19, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

قطار المساء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن