الشاعر والشِعر

56 6 1
                                    

في كتاب الكون تروى قصص من مختلف الأصقاع والبقاع، بعضها واقع نُقش على حجر، بعضها الآخر زيَّفه البشر فدفن الوقت حقيقته ومنها ما خُطَّ بأقلامٍ ابتدعها خيالُ وقَّاد فصارت رمزًا خالدًا كجزء لا يتجزأ من التاريخ

قصتنا آتية من قرية وسط بلادٍ واسعةٍ اكتنفها الغموض وتوارثت الأجيال أسرارها المخفية حتى أضحت أعجوبةً كغيرها من الأساطير.

عاش في هذه القرية منذ الأزمنة الغابرة أناس بسطاء، لا هم لهم إلا تأمين قوت يومهم  وتكاثر نسلهم، لم يحبِّذوا التقدّم ولم يألفوا العلم، معزولين خلف غاباتٍ كثيفةٍ حمتهم وحضنتهم بعيداً عن أعين الغرباء لا بل عن العالم بأسره.

من بين هؤلاء عاش صبيٌ يافع وحده دون مؤنس، لم يعرفوا شيئًا عن أسرته ولا عن أصله وكأنه ثمرة فريدة مقطوعة من شجرة نادرة؛ اعتاد تسلية نفسه بترديد كلماتٍ غريبة وجدها بين طيات أوراق خزانة بيته القديم والصغير، لم يفقه الناس لمرةٍ كنه كلماته العذبة والرقيقة، ظنوه عابثًا لعوبًا فتركوه  لهواه دون أن يسمحوا بصداقته أو الاقتراب منه.

لم يتسع فؤاده لكم المشاعر والكلمات الحبيسة فنقَّشها على الجدران والأرض فوق كلِّ حجر وغصن حول منزله الوحيد، بنى لنفسه عالمًا كاملاً أطلق به قوى عقله الكامنة، كان مكانه ساحرًا خياليًا خاليًا من الوحدة والعذاب، يملأه بالفرح والأمل فيعجَّ بالضحكات والبسمات،

كبر الصبي ليصير شابًا وكبرت معه كلماته، تنبه عقله لحقيقة الكون فصنع لنفسه ورقًا من الشجر وريشةً فريدةً لوَّنها بأحلامه، استمرت القرية بنكرانه وتنحيته فكلماته لأذانهم شعوذة وسحرٌ أسود ملعون، مع هذا لم يستسلم؛ يمشي بين الأسواق والناس ينشد قوافٍ غريبةً وخلابة ورغم هدوء صوته الباعث للسكينة فشل بتغير نظرتهم بل لعله زاد وضعه سوءًا.

تلك الكلمات في الحقيقة ما هي إلا كلمات لغته المندثرة التي طورها وحدّثها وأحيا ألوانها التي قتلها التاريخ ودثرها الزمان، مَلك موهبةَ ربَّانية بإلقاء الشعر، رصف أحرفه بعناية ودقة كمن كرَّس حياته ليصنع صندوقًا فاخرًا من الفسيفساء ثم أضاف بين ثنايا الزخارف الصدفية والراقية جواهر ثمينة براها بتأن وإتقان.

كان ولايزال شِعرهُ هو المؤنس والكليم الوحيد الذي أنقذه من حافة الجنون مراتٍ لا تُحصى، فأن لاقى الرفض والنبذ من جنسه ركض كطفل رضيع إلى أحضان مواسيه.

اعتاد الشاعر أن يقرأ كتابه ويصوغ كلماته الرقيقة على صخرة استقرت مقابل بحيرة على أطراف القرية خلف حدود الغابات الكثيفة والمظلمة التي لم يجرؤ مخلوق على عبور أو تخطي مداخِلها ذعرًا ورعبًا من أساطيرها، حيث هابوا المجهول وصدقوا كلَّ خرافةً رويت عن هذه البحيرة التي بدت لماعة وبراقة بأعين هذا الشَّاب الحالم ورغم ظلامها وركود مياها المخيف اتضح أنها مصدر إلهامه الأول والأعظم، فهي لم تفشل بإذهاله وبإثارة نبضات قلبه ودهشته.

الشاعر والشعرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن